
عمر أنسي، دارة الفنان، 1935

عمر أنسي، صورة ذاتية مع عمامة، 1935

عمر أنسي، دارة الفنان، 1935
أنسي، عمر
بيروت، 1901 – حزيران/ يونيو 1969
جسّد عمر أنسي الجيل الأوّل من الفنّانين السُنّة في بيروت، الذين كانوا يستوحونها ويرسمون ما كان له السمة المدينيّة.
مسيرته وسيرته تكتسبان أهمّيّة في كلّ ما يخصّ نمط عمل الرسّام في بيروت، وطريقة تعلّقه بها بروابط تتخطّى المسكن والحضور الجسدي.
وُلد جدّه، الحاجّ عمر أنسي، في بيروت سنة 1822، وشغل مكانة مرموقة في سلك الإدارة العثمانيّة. كان على اتّصال وثيق مع الشيخ ابراهيم اليازجي. والده، طبيب مشهور، رجل سَمْح المناقب وشاعر إذا ما دعا داعي الإلهام، أعطى المثل في كياسة التمدّن الذي يشير حتّى باللفظ إلى التخلّق بأخلاق أهل المُدن. نشأ أنسي، الذي رأى النور سنة 1901 في بيئة رهافة وثقافة، وتلقّى تعليماً ماكناً، موسوماً بتذوُّق الآداب.
انتسب سنة 1920 إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت ليدرس فيها الطبّ، متّبِعاً نهج والده في توخّي الخدمة العامّة. إلّا أنّه لم يكن لينسى شغفه بفنّ الرسم والتصوير. وذات يوم، لفت نظرَ الرسّام خليل الصليبي رسمةٌ لأنسي على غلاف مجلّة طلّاب الجامعة. فاستدعاه على الفور، وأفهمه بحماس أن الرسم هو ميله الحقيقي وعليه ألّا يخشى ذلك. أخذ عمر أنسي منذئذٍ يتردّد على مرسم الصليبي بانتظام. ذهب إلى الأردن سنة 1922 بقصد الراحة لأسبوعين في ضيافة قريب له، لكنّ الفترة امتدّت لخمس سنوات إذ طلب الملك - آنذاك الأمير - عبدالله إلى اللبناني الشابّ تدريس الانكليزيّة لابنه طلال، الملك العتيد. أقام سنة 1927 معرضاً في القدس. لم يلقَ المعرض في المحصّلة الفهم والتقدير الكافيين، على رغم ما حقّقه من نجاح مالي؛ كانت لغة أنسي، منذ ذلك الوقت المبكر، تقول غير الطموح الأوّلي للمؤدّى التصويري الذي كان من شأنه أن يثبِّته من المنطلق في دور الرسّام المحلّي، القادر على التقاط خصائص منظر طبيعي، ونسخ مشاهد تحظى بالشيوع، ولو مواصلاً لحسابه الخاصّ أبحاثاً أكثر تعمّقاً. ولدى عودته إلىى بيروت، السنة نفسها، تكلّم طويلاً مع خليل الصليبي الذي حمله على اتّخاذ القرار بالسفر إلى باريس وأرسله إلى يوسف الحويّك.
كان للإقامة في باريس من 1928 حتّى 1930 أن كلّفت أنسي وقوعاً في الحبّ – إيمّا Emma، التي ستلحق به إلى بيروت سنة 1933 – وصداقة، مع الحويّك، ستدوم حتّى آخر حياته. الحويّك، في باريس، يتماهى مع المجابهة، مع مخيال ثلاثة مجتمعات، ولغات، وثقافات، الفرنسيّة، والعربيّة، والأنكلوساكسونيّة، مع طموح فنّان من النهضة. وأنسي يتماسّ مع القيم والمعالم الأوروﭘﻴّﺔ. كانت إقامته في الأردنّ، بالإضافة إلى دراسته، قد قادته، بالتاكيد، إلى الاحتكاك بالتأثير الإنكليزي، لكنّ التردّد الدؤوب على أكاديميّة لا غراند شوميير la Grande Chaumière، ورسّامين آخرين، ومتاحف، ومعارض، جعله يعي تاريخ الفنّ وألهمه الرغبة في أن يجد لنفسه مكاناً فيه. لكن، لمّا كان الصدع يتعدّى الطموح، جرت الأمور، بالنسبة إليه، كما لو انّ ثقل التدريب التقني كان يحفر هوّة يتعذّر اجتيازها ويحول دون ولادة ما يميّزه ودون أن يتكلّم لغة كونيّة. كما لو لم يعد هناك من شيء عدا الرغبة في المطابقة البسيطة بين المنظر الطبيعي اللبناني وألوان الرسم المائي. فبعدما راح يحتكّ بباريس، لعلّ إسباغ طابع ريفي نهائي على عمله كان سيقوده إلى أن يكون رسّام المنظر المغرّب والسياحي لبلد تحت الانتداب لو انّه لم يعرف كيف يتخطّى تلك التناقضات في حياته وفي فنّه، وكيف يستند، على نحوٍ واضح ومتماسك، إلى فنّ الرسم وأدواته.
بات هذا التخطّي ممكناً لكونه قد بُنِيَ على شاعريّة، هي تلك الخاصّة ببيروت التي عاد أنسي إليها سنة 1930، واستقرّ في المنزل العائلي الكائن في محلّة تلّة الخيّاط. عاد إلى رسم شاطئ الأوزاعي وعين المريسة، المنظر البيروتي الذي يواجه البحر، لكن أيضاً وسط المدينة. النمط المعماري الذي يميّز بيته، المبني في منتصف القرن التاسع عشر، الحديقة العربيّة، خضرة الحقل، الماعز والغزلان، الينبوع والحوض، كل ذلك يستولد نتاجاً من هذا المكان الذي كان يوفّر له طريقة في إعادة خلق التسآل التشكيلي للعالم، وهو مقيم في منزله الخاصّ وفي هذه المدينة يذرعها في كلّ الاتجاهات واقعاً وذكرى.
هناك معماريّة الحيِّز، ولا شكّ، لكن معماريّة الزمن كذلك لأنّ بيروت كانت تشهد، حتّى سنة 1950، نمط تطوّر مدينة كان المكان فيها، بدل توتيره، على وِفاق مع رغبة سكانه وإرادتهم. الطبيعة الدائمة الحضور، في الحدائق كما في البيوت، والحُجرات بشبابيكها الخشبيّة، كانت قد أصبحت مكامن تناغم غريب تكتنفه الأسرار. ومع برودة الشتاء ورطوبته، إذ تكون مدفأة المازوت في الصالون غير كافية وتستدعي اللجوء إلى الرادياتورات الكهربائيّة الصغيرة، كانت الغرف تتنفّس تناغم الزمن المكتنَف والمدجَّن. لقرنٍ خلا ونصف القرن، لم يعرف زمان المدينة ومكانها انقطاعاً. وما كان في وِسعه أن يقوم مقام التاريخ لم يترك أثراً في العمارة ولا في نظام المدينة، مقتصراً على تبدّل الشاغلين في المباني العامّة، دون أن تُعِير المدينة اهتمامها وسخريتها لما يقع ما بعد رأسِها المُطِلِّ والبحرِ السعيد.
يأخذ أنسي إيقاعه في هذا الأطار: مَعارض قليلة، لكن سفرات متعدّدة إلى أوروﭘﺎ خلال الثلاثينيّات والأربعينيّات: فرنسا، ألمانيا، سويسرا، إﺳﭙﺎنيا، إيطاليا. وهو بإنتاجه المكثَّف وبانفتاحه على العالَم الخارجي ينجو من الوقوع في المنظر المغرَّب والسياحي. إنّه داخل فنّه يتكلّم على ملاعب حساسيّته في المدينة، على كافّة عناصرها التي تروح تَرهُف وتنبني بمراس الأعمال الفنّية نفسه. ذلك أنّه مثلما سيكون لديه دائماً هذا الجانب من البساطة الأساسيّة حيث تلعب الرغبة في تحقيق التشابه والتمثيل، كذلك ستلعب لديه دوماً، ربّما تحت تأثير الصليبي، رغبة قويّة في تثبيت التمايز وإبراز الخصائص سيعيها تِباعاً مع تمكّنه من التحكّم بمعطيات المرئيّ المشابكة وتنظيمها.
كان أنسي ميّالاً إلى الرسم المائي، الذي يتميز بإتاحة الالتقاط الفوري للاحساس، والإحاطة الأشدّ بالرؤية كما تكون معطاة، لكن بخفّة اللقطة. قيل إنّ مَيله القليل إلى استخدام المواد، ومنها الزيت، إنّما يعود إلى ارتفاع ثمنه؛ هذا يجافي الحقيقة، حتّى لو أنّه أبدى هذا الميل الطبيعي إلى التقتير المعهود لدى أصحاب الحِرَف عامّة، وهو قد استأجر متجراً، في مطلع الثلاثينيّات، قرب سوق الفرنج، بهدف عرض نتاجه وتصريفه. كانت أسعار الرسم المائي في ذلك الزمن دون أسعار الزيتي. وكان الهواة الفرنسيّون أكثر إقبالاً على الرسوم الخفيفة يحملونها معهم كذكريات من البلد. لم يكن أنسي يرسم لهم فقط، وبالتأكيد، لم يكن ذلك ينمّ عن ازدواجيّة لديه، إنّما كون زوجته الثانية، ماري بواييه، ألزاسيّة الأصل وتعمل في المدرسة اﻟﭙﺮوتستنتيّة، كان يتيح له الانفتاح على الأوساط الثقافيّة الأجنبيّة.
كثيراً ما يجري تصنيف أنسي كصاحب رسم مائي سياحي، في حين أن القسم الأكبر من نتاجه غير قابل للتصنيف في هذه الفئة. وهكذا يُخشى من أن يكون في ذلك تزوير التفسير الذي يعطيه أنسي نفسه، نظراً إلى كون مسألة إسباغ الخصوصيّة المحلّيّة، إن لم نقل مسألة فنّ الرسم الوطني، هي مسألة كانت مطروحة عليه على نحوٍ طبيعي. لم يكن هو نفسه يجاهر بذلك، لكنّ المسألة كانت تطرح أصلاً حتّى من خلال ممارسة مهنة الرسّام. هكذا رسم أنسي الأردنّ عندما أقام في الأردنّ، ورسم الدروز لدى إقامته في جبل الدروز. وتتّصف اللوحات الزيتيّة العائدة إلى هذه الفترة بتألّق التخطيطات وغالباً، بقوّة بنيان ملفتة.
كان أنسي بيروتيّاً عتيقاً. ومع أنّه لم يكن شديد الميل إلى تأمّل أغوار الذات، لم يحل ذلك دون انطوائيّته، بركونه إلى بيته القديم في محلّة تلّة الخيّاط، وسط الحديقة حيث كان يزرع الورود ونباتات أخرى، وأشجار الأوكاﻟِﭙﺘﻮس تلك التي غالباً ما رسمها، وما كان يشبه فُلك نوح، بما يحويه من غزلان وماعز داخل بيروت، حيث لن ينته غرقاً إلّا بعد نصف قرن. كان يرسم ما يراه، أي ما كان يعيشه: ذلك المنزل نفسه. كان كلّ شيء عنده يبدو، إذا لم نحتط للأمر، ذا بساطة خادعة، عدا رسمه الذاتي الذي يتخلّل كامل أعماله، والذي يتدرّج من التنكّر الانتصاري في البدايات إلى المائيّات التي يغلب عليها التساؤل القلِق في سنوات النضج والشيخوخة.
هل قامت منافسة بين سِير Cyr وأنسي ابتداء من الثلاثينيّات؟ غالباً ما كانا يلتقيان ولم يكن أنسي يشعر بهذه المنافسة على صعيد المبيعات، على رغم كونه مَرّ بفترات كان مضطرّاً فيها إلى أن يرسم كي يعيش، عدا اعتماده على راتب زوجته. كان يضع نفسه في سياق مجرى تاريخي وثقافي لا شأن له فيه وَفْق تَيقُّنه من ذلك في قرارة نفسه، على رغم سنواته الباريسيّة والفرنسيّتين اللتين تزوّجهما تباعاً.
كان الفنّ بالنسبة إليه مهنة، وفي أفضل الحالات، حِرْفة تأدية المؤدّى. وهذا يعود إلى الإرث العائلي القديم وإلى نمط العيش، إلى نوع من انفتاح العين على العالَم كلّ صباح. فأي دور كان للثقافة وللشعور بالاستمراريّة التشكيليّة؟ لم تكن المسألة مطروحة على هذا المستوى. فالبنية الذهنيّة والاجتماعيّة التي عاش فيها كانت، بنسبة كبيرة، تجنّبه الارتدادات ضدّ الذات، وحالات الرفض، والتمرّد، وجلبة فورات القلق. كان يرى عدداً قليلا من الأصدقاء، ومنهم يوسف الحويّك وقد خصّص له غرفة في منزله. كان كلاهما يعيش الحنين إلى كلاسيكيّة يفهمانها كفنّ رسم شهواني وحسّاس. كان الحويّك يؤدّي كلّ ذلك في نحته، المشغول بانحباس الحساسيّة دون استبعاد قوّة القلق.
أسهب أنسي في شرح الصعوبة التي لقيها بتطوّره في إطار المناداة بفنّ لبناني بعد الاستقلال. والغريب في الأمر أن أعماله تقيم حدوداً تعطي الانطباع بأنّ تعدُّد التأثيرات والحوار بين البيئة المحلّيّة والأوروﭘﻴّﺔ كانا أقوى نشاطاً تحت الانتداب الفرنسي. عاد إلى الرسم الزيتي أواخر الأربعينيّات، ولم تكن لوحاته في الخمسينيّات مجرّد تحويل مائيّاته إلى رسم زيتي.
إنّها تبيِّن كذلك إتقاناً أكثر نضجاً في تأليف اللوحة وفي الأشكال، حتّى لو أنّه يترك الانطباع بأنّه يكرّر نفسه، وأنّه أحياناً يدفع بأبحاثه في تنويعات غير مفيدة. فهو لم يعد مدفوعاً بحساسيّته، التي زادت عملُه تشوّشاً خصوصاً وأنّها، مع عيشه فكرة الحداثة في الفنّ كاعتداء وانكسار، لم تعد بالنسبة إليه مسألة يجري استبعادها ومتحوّلة، مع الشيخوخة، إلى مصدر إضافي للازعاج. ونظراً إلى طبعه الكتوم، وحيائه، وميله إلى حدب الأمومة لدى نساء يكبرنه سنّاً، انتهى به الأمر إلى تراجع تَعَرُّفه لدى هذا الجمهور الذي بدونه، مع كونه لا يتعدّى بعض الهواة، لا يشعر الرسّام بأنّه في الوجود.
كان سِير قد حاول، فيما كان يشيخ، أن يجمع في حزمة واحدة مختلف تجاربه التشكيليّة، وكان يأمل أن يأتي بجديد إلى الفنّ المعاصر مع صيغة جديدة لتكعيبيّة كان يعتقد أنّها اختباريّة، في حين أنّها كانت، في فرنسا، على بُعد 3600 كلم من بيروت، تقتصر على تكرار التكعيبيّة الجديدة néo cubisme. أمّا أنسي فكان في الخمسينيّات والستّينيّات يرى الفنّ اللبناني الفتيّ في محاولته أن يولد، لكن لم يكن في وِسعه أن يبقى الشاهد الأساسي على نحوٍ آخّر في الرسم وفي الإحساس. كان الجديد في ما حمله إلى الفنّ اللبناني هو الشهادة على نمط حياة، وفي الحدّ الأقصى، الرسم المائي كهواية رفيعة، وبعض اللوحات الزيتيّة التي غالباً ما يتناول موضوعها العلاقة مع فنّ الرسم بشكلٍ أو بآخَر، كاستعارة مجازّية عن الأداة المستخدمة، بالانتقال من الحكايات الصريحة أو الرمزيّة إلى شعور بالطاقة الثقيلة التي يستدعيها الزيت واللون.
سيرة أنسي الذاتيّة تضمن له مكاناً في تاريخ الفنّ اللبناني حيث تكون السيرة الفرديّة أحد المهارب النادرة أمام المؤرِّخ في مواجهة الانسحاق أمام الحضور التشكيلي والثقافي الأوروﭘﻲ الساحق، إذ إنّ غياب جريان الوقت يكون عندئذٍ المعيار الوحيد لتاريخيّة الرسّام وقيمته الثقافيّة. لكنّ هذا لا يجعل من أنسي الشاهد السوسيولوجي على ولادة الفنّ في لبنان، إذ إن مثل هذه الإطلالة تستبعد في أغلب الأحيان فنّ الرسم لصالح السوسيولوجيا. وينتهي المَخرَج عبر السيرة بأن يكتسب قيمة الوثيقة، لا لكي يُنظر إلى صاحبها كمستشرق محلّي، بل كامرئٍ يقيس فيض الحياة بحذر إزاء فنّ الرسم، ويحاول، كذلك، إنقاذ نمط حياة في بيروت.
كان أنسي منصرفاً إلى ممارسة محلية بامتياز: زهور، مناظر طبيعيّة، نساء، عمارة داخليّة، والكلّ يُرسَم كما لصيانته. هنا يَعتبر الرسّام نفسَه كاتبَ سيرةٍ لشخصه وللآخرين، كافلَ الحفاظ على تقاليد. ولمن يعترض معتبراً أنّ ذلك يقصر بحثنا في حقيقة الفنّان على التفسيرات النفسيّة لكوننا لم نستطع تعيين مكانه في تاريخ للفن، نقول إنّ هذا الأخير مكوَّن من أفراد مختلفين لا تفاعل مهمّاً فيما بينهم، بالنظر إلى الاختلاف بين البيئات الثقافيّة التي ينتمون إليها، وكلّها، في لبنان، بيئات معرَّفة.
لم يتوصّل أنسي، إلّا نادراً، إلى تخطّي التفصيل الطريف، إلى الذهاب أبعد من شهوانيّة بالغة الهزال في الادراك الحسّي للانطباعات، خصوصاً وأنّ كبت هذه الشهوانيّة يزداد بغسلها في ماء الأكوارِل البارد. هناك بالفعل في هذا الأخير، الرسم المائي، مباشرة فوريّة مقروءة ببالغ السهولة، كشغل على اللقطة، واللمسات، والتدرّج في اللون. وسيظلّ ناقصاً فيه دائماً ما يبني اللوحة، ما يذهب إلى طابع مادّي إرادي وليس إلى سهولة المساحات البيضاء التي كان سِير يُفَرِّط فيها وكانت تُستخدَم مثل صورة سلبيّة (نيغاتيف) للتسرّع، من أجل الحاجة التي تولّدها تلك المساحات البيضاء لبناء مساحة اللوحة.
فالتفصيل الطريف غير كافٍ لبناء الموضوع، لوَسْمه بالأدب. لجوء أنسي إلى البناء على هذا التفصيل – شرقيّ الأردنّ، جبل الدروز، الجبل اللبناني، أو الهدأة العذبة في مرسمه البيروتي – لم يوقعه أبداً في الانحطاطيّة التي كثيراً ما تلقى تشجيعاً في مجتمع مغلق، حيث استمراريّة التقاليد واحترامها لا يضمنان سلامة الذوق، مثلما أنّ استبدال زخرفة بشيء آخر ليس إلّا زخرفة من القبيل نفسه لا يستثير الانتباه. ما الذي حال دون وقوعه في هذا الانحطاط؟ ربّما لأنّه كان الأوّل في زمانه. إلّا إذا توخّينا المزيد من الانصاف باستدعاء الاستمراريّة البيروتيّة، والانتماء إلى أسرة مثقّفة. كان فرّوخ صاحب رسم الجنرال التركي جمال ﭘﺎشا، في حفل استقباله في فندق غاسمان، لكنّ دافع فرّوخ كان تعلُّقه بالبقاء على قيد الحياة، في حين أنّ أنسي لم يكن متعلِّقاً إلّا بحزنه وبانسحابه من الحياة العامّة.
كان يرى في الرسم تعويذة، كترياق يحميه من الوجود؛ الظباء في حديقته ليست من باب الاستعارة أو الصورة البلاغيّة، بل هي تعبير يحمل شِعراً واعتراضاً، وتحقيقهما في حلم بجنّة من قصيد النسيب لا سبيل إليها، وما الرسم إلّا سعي في طلبها. إذ إن هناك فعلاً جنّة عدن لبعض الظباء. ففي ذاته احتوى أنسي العالَم. حمايةً له واحتماءً به، ولرسم حدود أرض سحريّة حيث الاحساس لا يستهدف إلّا قوله – أقلّه عندما لم يكن عليه تخصيص الأكوارِل للأطعمة كما فعل خلال تجربته العابرة في صالة العرض التجاريّة التي فتحها في سوق الافرنج في بيروت في مطلع الثلاثينيّات.
كان يرسم مثلما نغسل وجهنا صباحاً في صعوبة الاستيقاظ. لكن ما كان يُبَلِّله ماء الأكوارِل البارد هو فيض الاحساس وغناه. غالباً ما نجد في زيتيّات أنسي، على محدوديّة ما يمكن أن نراه، وعلى رغم كثافة المادّة، العفويّة التقنيّة المعهودة في مائيّاته. اللون الملتقَط بكلّ معجونه، الشهوانيّة التعبيريّة المشغولة باجترار الموضوع والألوان، الرسم المتوازن الذي ترتبط النجاحات فيه بتوتّر فراغ الصبر في انتظار تجاوز إجابة المؤدّى، للمضيّ قُدُماً إلى ما بعد تطلّبات التصوير التمثيلي. وفي المحصّلة، سيتوجّب انتظار خروج هذا الرجل الموزون والحذِر عن طوره في مواجهة عالم الفنّ كي نراه، أخيراً، خارج نطاق الشعارات، وعارياته في صحبة الظباء، وتراودنا الرغبة في السؤال – لافائدة من السخرية – إن لم تكن هذه وتلك ترعى في حديقته جنباً إلى جنب.
مع ذلك، كان أنسي حامل إجابات أكثر تَطلُّباً، ذات دِقَّة ناعمة وعنيدة، في وِسعها وحدها مساعدته على مقاومة الآليّة الاجتماعيّة الهائلة التي، بمجرَّد سكونيّتها، تجعل من رفض حتّى فكرة كون المرء فنّاناً عاملَ تدميرٍ وتدمير ذاتيّ رهيباً. ذلك أنّ التحريم يسهر على أن تلزم فنون التمثيل التصويري جانب الحذر إذ يُنظَر إليها لا كنموذج للتطبيع الغربي، بل كتقنيّة إضافيّة، يزيد من إلحاح ضروريّتها أنّ الفرد، بوِلادته، لا يتيح تَبَيُّنَ قوّة استمراريّته في مجتمع يسود فيه التحفّظ على إمكانيّة التسامح إزاء الذوق السليم. كان على أنسي أن يخوض صراعاً ضدّ ذلك، لكنّ إجابته ظلّت ضمن نطاق الممكن. ضرورة الموضوع الأدبي، وضرورة استخدام نسق رمزي أو تصويره. مناظر طبيعيّة محلّيّة وطبيعة ميّتة انتهى الأمر بها إلى إظهار ارتكابه خطيئة التَلذُّذ الذهني الأثيم كممارسة تدريب تمثيلي واحد مع بضعة تنويعات عليه. لكن هل كانت الأطر التاريخيّة والسوسيوثقافيّة لِتسمح له بتعبير مختلف عن الذات؟ يرى كثيرون فيه الأداء الرديف لاستعمال كلّ من أبيه الطبيب وجدّه الشاعر حساسيّتَه الذاتيّة، في استمراريّة الأسرة البيروتيّة.
ولمّا لم يعد لديه من نموذج حيّ، حَمَله ميلٌ إلى التلذّذ بالمرأى، جافّ وانتقاميّ بعض الشيء، على استخدام استيهام النموذج كذكرى الضوء على الجسد؛ كان يُضرِم الانتقام بالتأمّل في عبثيّة الوجود التي لاحقها في تمظهراتها الأخيرة وفي ذكرياته. ماذا في وِسع الجسد أن يقول عدا حتميّة فنائه؟ كان أنسي يفضّل غسل الفناء بماء الأكوارِل على غسله بالعَرَق المثلّث، بعيداً عن تقاليد رسم عبثيّة الوجود بالهياكل العظميّة والجماجم. وكلّ هذا غالباً ما يكون بحلاوة السكَّر، عندما يغطّ هذه التقاليد في مياه الكياسة والتواري والصمت.
لم تكن المشكلة لدى أنسي في تفارق زمن تقنيّته أربعين عاماً، بل في مثل هذا التفارق بالنسبة إلى الأطر التشكيليّة والذهنيّة التي تفترضها تلك التقنيّة. من المهم، فيما خصّه، عدم تبسيط الأمر، وعدم النظر إليه كتعبير عن مُجمَل جماعة السُنّة في بيروت، ولا حتّى عن قسم منهم، المهمّ هو تفسير كيفيّة إندراج حساسيّته في الإطار السوسيوثقافي خاصّته. فحتّى في إدراكه للعالَم كان هناك التقاليد المدينيّة المصانة، وصلاحيّة الضمانة الشخصيّة، وغياب المنظور التاريخي، طالما أنّ القوّة الكبرى الحامية للأمبراطوريّة كانت كلّ فرد تحت حمايتها، وهذا يعني، باختصار، فنّ بلا أودﻳﭗ. ويمكن ملاحظة عدم الحاجة الظاهريّة لوجود النساء في عالَم يقوم كلّ شيء فيه على انتقال الإرث عبر الأب، ولا فاعليّة للحساسيّة الشِعريّة إلّا عبر شهوانيّة تخصّ طريقة حياة. إنّها شهوانيّة تُرى كتمرين لحاسّتَيِ الشمّ واللمس.
قرأ أنسي العالَم كيأْس وكواقع. لم يكن الأمر يتعلّق بتحليل نفسيّ سهل يمارَس عليه، بقدر كونه يتعلّق برؤية لوحاته ومائيّاته تتفكّك فيما كانت تتراكب، ولا رابط بين الحالتين سوى ماء المائيّات. والحال إنّ الماء يتبخّر، إذ إنّ الخضاب يثبّته الصمغ العربي. ويخيّم على كلّ هذا صمت لا يخرقه إلّا الفنّ: الماء كإمكانيّة وحيدة لإيقاظ الحواس والألوان، في عمليّة تنظيف النظر من تعب قديم، مثلما يُغسَل المنزل شَطْفاً. كان أنسي يكره ذلك أشدّ الكره.
يكون أنسي قد أقام معرضين في بيروت، في شباط 1951 في صالة فخر الدين، وسنة 1964 في صالة وَن One.

عمر أنسي، بيروت، 1966

عمر أنسي، بيروت، 1968

محترف عمر أنسي، بيروت

عمر أنسي، بيروت، 1966