
دايفد هوكناي، استفسر عن الجودة، 1966

دايفد هوكناي، كافافي في الاسكندرية، 1966

دايفد هوكناي، كافافي في بيروت، 1966

دايفد هوكناي، استفسر عن الجودة، 1966
هوكناي، داﻳﭭﺪ
برادفورد (المملكة المتّحدة)، 1937
استطاع هوكناي، وهو بعد فتى يافع، حين كان طالباً في الكلّيّة الملكيّة للفنون، أن يوجِد وأن يتكلّم لغته الخاصّة التي كانت تصدم الناظر بجديد تصويرها. قام سنة 1963 برحلة إلى مصر لحساب جريدة صنداي تايمز، وعندما عُرض عليه، بعد سنتين، أن يعمل على رسوم نقشيّة لقصائد الشاعر كاﭬافي سارع إلى الترحيب بالفكرة خصوصاً وأنّه كان يريد أن يجرّب مغادرة مرحلة من الشكلانيّة في عمله الفنّي.
كان مدرِكاً ان لا وجود لإسكندريّة كاﭬﺎفي وبدا له أنّه قد يتمكّن من العثور على عناصر شِعره التصويريّة في بيروت.
فحتّى إذا كان سيعاين بيروت ويرسمها بالفعل في الاستقراء والتشوّش، يكون، أقلّه، قد عاين وعاد ليواصل، على نحوٍ مدهش، بعد مرور قرن من الزمن، رسوم ضَض Dadd العائدة إلى 28 تشرين ألأوّل/ أكتوبر 1842، كذلك رسوم مونتفورت Montfort. لكن يجب ألّا يغيب عنّا أنّ داﻳﭭﺪ هوكناي جاء بيروت لكون إسكندريّة كاﭬﺎفي لم تَعُد في الوجود. أن يرسم بيروت وفي البال الإسكندريّة، هذا بمثابة إغلاق دورة التفارقات التي تُولِّدها بيروت، وحتّى التفارق المكانيّ الذي يشوّش كلَّ شعور بزمن معيّن.
بذا يتدمّر الحنين الممكن نفسه.
أمضى هوكناي الاسبوعين الأخيرين من كانون الثاني/ يناير 1966 في بيروت، جائلاّ في كلّ مكان، راسماً المدينة بلقطات خاطفة، جامعاً العناصر المختلفة التي استخدمها في نقوشه. هكذا نَجِدُ في خلفيّة رسم كاﭬﺎفي مبنى نادي ضبّاط الجيش اللبناني في محلّة الزيتونة، و «كشك بائع التبغ» كناية عن رسم على النموذج لجادّة الافرنسيّين، و «للبقاء» يمثّل واجهة مصبغة في شارع بلِسّ. كذلك يستعيد «رسم كاﭬﺎفي» منظراً لجادّة الافرنسيّين في اتّجاه فندق بسّول.
واضح للعيان أنّ هذه المجموعة من النقوش عبارة عن مونتاج، ويمكن الوقوع فيها على رسمة للنخيل الكاليفورني كما على إحالات إلى مجلّات ودوريّات مصوّرة. لكنّ الأكثر إثارة للدهشة فيها يبقى، رغم كلّ شيء، أنّ ما من أحدٍ بعدُ من رسّامي تلك الفترة كان قد رسم المدينة، ولا حتّى نظر إليها.
خالط هوكناي، في لبنان، الأوساط الإنكليزيّة والأميركيّة في برمّانا وبيروت. سكن شقّة مفروشة قريبة من الجامعة الأميركيّة وقام بلصق عناصر من الوحي المباشَر على ديكور بيروتيّ. كانت صِلته بالمدينة غاية في البساطة والوضوح: كان يكفي أن ينظر إليها كي يرسمها في تَجَلٍ لايقتصر على العناصر كافّة العائدة إلى الاسكندريّة، وحسب، بل حتّى على تلك الأكثر عاديّة ممّا يعود منها إلى بيروت، مع دهشة ذلك الذي ينظر حوله ويرسم.
لم يكن هناك مَن فَعَلَ ذلك قَبْله، وتَوجَّب على السذاجة، بَعدَه، أن تكون على قدر من الجهوز، ومن التصنّع، وفي تَرَقُّبٍ لِما كان يتملّقها، بحيث انقلبت فولكلوراً. فهو قد طرح السؤال، من موقع فوقيّ، حول طريقة رسم بيروت. لم يعد ذلك من قبيل آليّة التمثيل كما في لوحات سرور الكبيرة في مطلع القرن، أو لوحات غالانتز في مطلع الأربعينيّات. فهوكناي، في واقع الأمر، نقيض لكارسْوِل لناحية طريقة تَرْكِ أثَر وطريقة نظر. الانتاج، في نظره، نقيض الاستمتاع. حاول كارسْوِل أن يقيم على مسافة من انكلترا دون أن يؤدّي به هذا إلى التحرّر ولا إلى التمشرق، غير واجد وسيلة لاستقراء الشرق عدا اتّباع لافتات السينما والغرائب الملفتة شعبيّاً. كان زغيب في نظره محسوباً في عداد أصحاب هذه الرسوم الشعبيّة، يقابلها، في الطرف الآخر، رسوم الشاحنات.
هوكناي، وكارسْوِل، وزغيب، يطرحون، على درجات مختلفة، وتنويعات عديدة، سؤال المكان والإشارات، سؤال عِلم الدلالات، وسؤال البناء التشكيلي خارج نطاق الإشارات، أو بتحويل وجهة استعمالها. كان هوكناي مدركاً أنّه عابر، على سفر. أمّا كارسْوِل فكان مستقِرّاً، وكان يقيم خارج الزمن، ولديه عن الزمن فكرة مشوَّشة؛ كان واقعه يتحوّل إلى حنين لإنكلترا، [ضباب] fog دَبِق حال دونه ورؤية ما كان يحيط به وجَعَله يتحوّل صوب المسائل الجماليّة غير المحلولة التي كان يجرجرها معه منذ نهاية دراسته في الكلّيّة الملكيّة للفنون.
كان الشاغل الأكبر، بالنسبة إلى كارسوِل، هو هذا الواقع الذي كان يَشغَل وقتَه مع أنّه كان قد توقّف عن رسمه، إذ لم يعد لديه إزاءه مِن بَوْن. ففهمه ﻟﻠﭙﻮپ آرت وتناوله كفنّ شعبي لم يسمحا له بالمضيّ قُدُماً. كان لا يزال يمتلك المهارة المميِّزة لرسّام الحفريّات الأثريّة في وقت كان انكليز الضواحي والأحياء الشعبيّة، بمجرَّد تأكيدِهم حضورَهم، في صدد غزو الأوساط الفنّيّة اللندنيّة.
كان كارسوِل يَلزَم جانب الترفُّع وتحكيم الثقافة في معاناته حنيناً إلى وطن اقتُلِع منه، بذريعة طلب الشمس، محتفظاَ بأناقة الإنكليزي في المستعمرات. النقائص كلّها دون الخصال الطيّبة لا تتوصّل أبداً إلى بلوغ الخصال الطيّبة كلّها دون النقائص. كان يُبدي دهشته من كون الواقع لم يكن أكثر وضوحاً في اقتحام رغبته ولم يتآلف مع ما يتمنّاه في سرّه الأعمق. في حين أنّ هوكناي كان يرسم ما كان في استطاعة إنكليزي أن يدركه من عيش بيروت. كان كارسوِل يقصد طبرجا لفترة تطول في الشراب، يصحو منه فقط إذ كانت تعترضه بانتظام الحدبات الكابحة في الطريق كطريقة أخرى لقياس الوقت. كان هوكناي يدخل شرقاً يغلبه النعاس، وهو بالتأكيد ليس شرق ﻛﻴﭙﻠﻨﻎ Kipling، بل شرق دورِّل Durrell، كنزيح هجين وبعيد للإسكندريّة.
يبقى السؤال. كيف يمكن، في بيروت، نشدان الدهشة المستديمة في خليج بلا بَعوض؟ هل كان في إمكان المرء أن يجد هناك متعة العيش بلا مصاعب الخَلق الفنّي أو آلامه؟ أيكون هذا هو العالَم باعتباره رغداً؟ حتّى إن امتنعنا عن الحكم في الأمر، يظلّ ممّا لا يقبل النقاش أنّ هوكناي، بنقوشه ومجموعة رسومه اللبنانيّة، يضعنا في مواجهة خيبة فيما يتعلّق بهذا الاستنتاج: كان في موقع يتيح له رسم البلد ولم يفعل شيئاً. كانت أميركا موضع حلمه، وليس البحر المتوسّط.