top of page

فرّوخ، مصطفى

بيروت، 1901 – 16 شباط/ فبراير 1957

كانت بيروت، كمرفأ يشهد نموّاً عارماً ومركز ولاية عثمانيّة، تتمتّع بازدهار مشهود وتشكّل مركزاً تجاريّاً تَبعث الحياةَ فيه برجوازيّة نشطة. وقد وُلِد مصطفى فرّوخ سنة 1901. كان بين أخوته الوحيد الذي أُرسِل، سنة 1907، إلى مدرسة الشيخ جمعة، الواقعة في المكان الذي تشغله اليوم المدرسة الثانويّة للبنات في محلّة الباشورة. ونَجِده سنة 1910 في مدرسة طاهر التَنّير حيث درس اللغة العربيّة على الشيخ مصطفى الغلاييني. انتسب السنة التالية إلى مدرسة دار العلوم، لكنّ المؤسّسة ما لبثت أن أغلقت أبوابها بعد ستّة شهور بسبب الصعوبات الماليّة والحراك القومي.

أخذ فرّوخ ابتداء من 1912 يقدِّم رسوماً للمجلّة التي أسّسها طاهر التنّير في بيروت. تعرّف عندئذٍ إلى جول لِنْد Jules Lind، وهو مصوِّر فوتوغرافي ألماني مقيم في بيروت قرب فندق بسّول. كثيراً ما شوهد الفتى يتردّد إلى منزل لِند حيث آلَفَته ابنةُ الأخير الرسمَ المائي.

كيف توصّل هذا البيروتي الشاب إلى كسر تحريم التصوير في الإسلام؟ يُروى أن شيخاً من أصدقائه وعد بنفخ الروح يوم القيامة في هذه الأجساد التي يخلقها الرسم بلا روح، مُحرِّراً الفتى بذلك من الرعب الذي تملّكه ومُبطِلاً لعنة شيخ آخَر. صار فرّوخ مَحَطّ اهتمام لدى البرجوازيّة البيروتية، وعند وفاة والده سنة 1913، وعندما قدّم له هوارد بْلِسّ Howard Bliss، ابن مؤسّس الجامعة الأميركيّة في بيروت، منحة دراسيّة، فضَّلت والدتُه، بعد استشارات عائليّة، أن ينتسب إلى الكلّيّة العثمانيّة التي رحَّب به مؤسِّسُها، الشيخ أحمد عبّاس الأزهري.

إلتقى فرّوخ، سنة 1916، حبيب سرور الذي سيكون صديقاً موثوقاً له وسنداً. ومع أن سرور أتاح له التردّد إلى مرسمه، فقد شجّعه في الوقت نفسه على دراسة اللغتين الفرنسيّة والإيطاليّة كي يتمكّن من السفر إلى أوروﭘﺎ وتطوير مهاراته التقنيّة.

أخذ فرّوخ، ابتداءً من هذه اللحظة، يدّخر المال اللازم للسفر، وما أن اطمأنّ إلى تأمين مسكن له في روما عند عائلة إيطاليّة، آل ﭘﻴﺰاني Pisani، بناءً على توصية من نسيب شديد، شقيق المطران  شديد، حتّى أبحر، في 15 كانون أوّل/ ديسمبر 1924، على الباخرة «برازيل»، إلى إيطاليا، كما فعل قبله داود قرم وحبيب سرور. انتسب فرّوخ، فور وصوله إلى روما، إلى الأكاديميّة المَلَكيّة وإلى الأكاديميّة الحرّة. حفلت سنواته الأربعة التي سبقت نيله دﭘﻟﻮم التخرّج بالاكتشافات وبالعمل المكثّف. زار المتاحف، والتقى فنّانين إيطاليّين، وأكثر من الجلسات إلى المنظر الطبيعي في ريف روما.

انتهت إقامته الأولى القصيرة في باريس، في تمّوز/ يوليو 1927، بخيبة. لم يكن يعرف أحداً، واكتفى بزيارة بعض المتاحف. عاد إلى بيروت في كانون أوّل/ دسمبر من السنة نفسها، وأقام تحت رعاية الكشّاف المسلم معرضاً لأعماله في قصر أحمد أياس. وأعقبه السنة التالية بمعرض استعادي في مبنى وِسْت هول في الجامعة الأميركيّة، الأمر الذي مكّنه، بمساعدة من الحكومة، من إقامة في باريس للتخصّص دامت ثلاث سنوات.

كان متجاوباً هذه المرّة مع السحر الذي تمارسه باريس على كلّ فنّان. عرض أعماله في مختلف الصالات، والتقى فوران Forain وشابا Chabas، واستقبل أستاذه الإيطالي السابق كالكانيادورو Calcagnadoro، وقام برحلة إلى إﺳﭙﺎنيا ألهمته كتاباً حول الحضارة العربيّة في شبه الجزيرة الإيباريّة. وعرّج على إيطاليا ثانيةً في طريق العودة، أواخر سنة 1931.

قدّم فرّوخ، بعد استقراره في بيروت نهائيّاً، معارض عدّة. تزوّج سنة 1935، وبدأ يعلِّم فنّ الرسم في دار المعلّمين التابعة للجامعة الأميركيّة. لكن ظهرت عليه الأعراض الأولى لسرطان الدم. ظلّ يعمل بصورة متقطّعة، خلال فترات الهوادة التي يتركها له المرض، حتّى وفاته في مستشفى المقاصد. كان يقول: «سأموت، وأريد أن أرسم كما أرغب.» باتت الرؤية لديه اكثر بساطة وتجرداً من الإطناب.

واظب فرّوخ على مساءلة الإرث الأوروﭘﻲ بلا انقطاع، وأبدى بعد استقلال لبنان تصميماً متشدِّداً على طرح معالم فنّ لبناني وقضيّته. ولمّا كان قد قد حسم أمره أصلاً في اعتماد الفنّ مهنة، فقد استأجر، ابتداءً من سنة 1935، مرسماً في سوق سيّور. ولقناعته بضرورة أن يتمكّن الفنّان من كسب العيش اعتماداً على شغله في مجال الفن، دفع ثمن هذه المراهنة، التي نجح في تلبية شروطها، قلقاً دائماً خوفاً من العودة إلى حالة البؤس، التي تمثّلت بالنسبة إليه بفقدان الألوان، بعودة إلى طفولته يوم كان لا يستطيع شراء ما يحتاجه منها.

قارب فرّوخ ما يعود له من الثقافة الاسلاميّة على نحوٍ مترابط منطقيّاً. فهو لم ينقطع أبداً عن هذا الوسط البيروتي الذي يتميّز بخصائص على ما يكفي من الوضوح بحيث يكون التعبير عنها ممكناً. هو لم يَدَّعِ أنّه، بالنسبة إلى أصوله، قد تَغرَّب، بل كان يُشهِر إسلامَه، بانفتاح على الثقافة الاسلاميّة، ولم يتجنّب أبداً المعجبين بفنّه منذ البدء. إلّا أنّه اضطرّ كرسّام إلى طرح مسألة تحريم الصورة، غير واجد من ملاذ إلّا، لِماماً، في الفنّ التزييني والأرابِسك arabesque.

هذا الإطار الواقعي الذي كان مجال اشتغال فنّه، يتيح، من البدء، أن يُرى بوضوح أنّ حقل استكشاف الواقع كما كان يفهمه لم يكن يستهدف أيّ موضوع خيالي، أيّ تكوين لعالَم غير هذا، أو فهماً شخصيّاً للأشكال، بل ما كان معطى في مجال البصر، وفْق تراث فنّ الرسم، وما كان مجال البصر يتيح إظهاره، بأفضل ممّا تتيحه المجالات الأخرى. وظلّ استكشافه المنهجي للبنان محتفظاً على الدوام ببعده الانساني؛ رسم قرىً وسكّانها، ونماذجَ بشريّةً – ليس لِـمَيْلٍ إلى فرادة الغريب بل لنهمٍ إلى الصورة – ومِهَناً. إنّنا، بنظرة إجماليّة إلى أعماله، ندرك أنّ رسم العالَم كان، بالنسبة إليه، الجواب الممكن الوحيد، تَساؤلاً وإجابةً، مسألةً وحلّاً.

لا شكّ في أنّ من المتعذِّر فصل المواضيع عن طرائق معالجتها. كان الأكوارِل يوفّر له سيولة الرسم المائي المثاليّة في نظره، والطلحيّات الكبيرة المشغولة في الطبيعة أو في المرسم، مع الاستعانة بملاحظات مكتوبة أو تخطيطات سريعة ولقطات خاطفة، تتيح فهم تنوّع وسائله، لكن، خصوصاً، تشبثّه تقنيّاً بتظهير النظرة والموضوع المنظور وطريقة النظر معاً. وهو يُبدي أحياناً براعة في الأداء تفوق المهارة المكتسبة من ممارسة طويلة لأداة ما.

تتساوى في الأهمّيّة عند فرّوخ وقائع السيرة والفنّ واصطلاحات المقاصد والاحتمالات. إنّه يمثِّل بوضوح المُداناة البيروتيّة لفنّ الرسم، والتعبير الثقافي عنها الذي لازم فرّوخ طوال حياته المهنيّة من سنة 1924 حتّى وفاته سنة 1957.

إنّ ولادة موهبة في إطار بمثل هذه الدِقَّة كانت تتقاطع آنذاك مع عِدّة عوامل: فنّ لبناني من الحقبة العثمانيّة، ممارسة الفنّ في وسطه البيروتي، وتحديث هذه العلاقة مع الفنّ في هذا الوسط التقليدي والشعبي. المسائل التي تُطرَح هنا لا تتعلّق بالحداثة، كما قد يتبادر في الذهن للوهلة الأولى، بقدر كونها تتعلّق بمسألة الواقع الأساسيّة، الواقع التاريخي وواقع الحقبة في الوقت نفسه. وهذا ليس على نحوٍ بدائي، كشهادة بسيطة، بل في الحاجة إلى التعبير عن الثقافة كلّها وعن حساسيّة حقبة بلغة الحداثة أو بلغة التراث. والحال، إن فرّوخ هو أحد الفنّانين النادرين الذين يمكن للتواصل معهم وقراءتهم أن يكونا تاريخيّين، ابتداءً من رسم جمال باشا إلى ملصقات الدعاية الانكليزيّة التي نفّذها خلال الحرب العالميّة الثانيّة.

تكمن مسألة الواقع الأساسيّة عند فرّوخ في جواب ما كان سوقه الحقيقيّة أو المفترضة، مناظر بطاقات بريديّة وشخصيّات أو نماذج محلّيّة، لتلبية طلب جمهوره. كانت لحظته الأكثر اقتراباً من الواقع، ومن التجربة الفنّية المضمّنة فيه، هي لحظة التحقت واقعيّته برؤية تنطوي على دعوى مطلبيّة وغرض سياسي. حتّى لو راح يتأمّل مكنسةً ويرسمها، كان يظلّ  دائماً محتفظاً باللمعة الإيديولوجيّة التي تضفيها البرهنة وكذلك، في المقام الأوّل، بشيء من الإشاحة عن الواقع الذي لم يكن يُرى أبداً في ذاته، بل كان مستخدَماً فقط في تصوير تستدعيه وظيفة هذا الواقع، مع تبسيطه على كلّ حال.

أقام فرّوخ معرضاً سنة 1935 في مدرسة الصنائع، وسنة 1937 في «حلقة الاتّحاد» الفرنسيّة في بيروت، ثمّ سنة 1938 في وِست هول في الجامعة الأميركيّة. وسنة 1946 في النادي الثقافي في طرابلس، وسنة 1949 في النادي الرياضي في بيروت، وسنة 1953 في بيت حزب النجّادة في بيروت.

مصطفى فروخ معرض.jpg

مصطفى فروخ، معرض الجامعة الأميركية، بيروت، 1929

bottom of page