
أمين الباشا، عيد البحر، 1971

أمين الباشا، تشكيل، 1971

أمين الباشا، عيد البحر، 1971
الباشا، أمين
بيروت، 1930
الفنّان والمدينة يشكّلان أحد الثنائيّات الأكثر غرابة والأكثر أهمّيّة في الحداثة. وهذا عائد إلى الطريقة التي يرى كلّ منهما إلى علاقتهما ويعيشها. فالمدينة، بالفعل، تجاوب الرسّام بإشاراتها.
بالطبع، قام الفنّانون اللبنانيّون في العشرينيّات والثلاثينيّات بمخاطبة المدينة، لكنّهم، في معظم الأحيان، كانوا يبحثون عن المشهد النادر، برؤية سياحيّة تجتذبها الصورة الطريفة. كانوا يمارسون رسم المواضيع الرائجة شعبيّاً، مع اهتمامهم بحمل خصائص يمكن تَعرُّفها من النظرة الأولى، وإظهار الهويّة بالمعهود. النظرة السريعة، مهارة اليد، والقدرة على الأداء الأكثر دقّة في تصوير النموذج وعلى جعل رؤية الرسّام في متناول العدد الأكبر من المشاهدين، هذه هي أبرز خصائص المرحلة في تاريخ الفنّ اللبناني.
أدخل أمين الباشا المدينة في الحداثة بوسائله كرسّام متسائلاً حول إمكانيّة وجود فنّ الرسم: كيف لرسّام أن يعيش في مدينة، مدينته، التي يحبّ، دون أن يكتفي بأن يبيّنها من الخارج كموضوع؟ كيف له أن يعيش هذه المدينة – على نحو أن يقال عاش حياته –، أن يعيش المدينة الشاعريّة، بيروت، من الداخل، بإشاراتها المعطاة للحسّ والقابلة للتلمّس، مع المضيّ قُدماً، حتّى هذه الرؤيا الداخليّة التي تكون، في آخِر الأمر، بالنسبة إلى كلّ إنسان، اختباراً لمكان ولاستعارته المجازيّة؟ هل توصّل أمين الباشا إلى ذلك يا تُرى؟ هل يكلّمنا رسمه على بيروت وعلى ما تعنيه؟ هل خطا الخطوة التي تفصل المصوِّر الحسّاس والفطِن عن الرسّام الفنّان، حاملِ مقصدٍ وعالَمٍ مترابط، باني أَشكالٍ ومبدعِها؟
إنّ الفِكَر المسبّقة المحيطة بهذه المسائل متراكبة ولا شكّ. ففي رَبْطِ رسّامٍ بمدينة تصنيفٌ له على الفور كرسّام مَحَلّي وإقليمي، وعرضةٌ للانتقاص من شأن مقصَد أعماله ومداها. والحال، هذا المنطق لا يذهب بعيداً. فهذا جيورجيو موراندي Giorgio Morandi، بعد مرحلته الطليعيّة، ألمْ يُمضي في قريته عقوداً، مع طاولة وإبريقين، وهو يرسم دون كلل لوحات طبيعة ميّتة؟
يوجد لدى أمين الباشا إعادة تأويل للعالَم بالتدريج، بالتلازم مع تملّكه حياتَه ومدينتَه. عناصر الرسم لديه مستمَدّة من سيرته الذاتيّة. تختلط الأمور هنا، سيرةً ذاتيّة ورسماً، كما في الجهد المبذول للتذكّر، عندما لا يكون مرور الوقت إلّا حنيناً إلى الانجاب الفردوسي لكل لوحة. فيجري عندئذٍ تكرار المشهد لقول الشيء نفسه، ويتواصل الرسم بلا كلل كما لو أنّ كلّ مرّة هي المرّة الأولى.
كان الباشا يقول: «لي ثلاثة أَعمار. وُلِدْتُ سنة 1930، لكنّ لم يتمّ قيدي في سجلّ النفوس إلّا سنة 1937، مع شقيقتي المولودة سنة 1934. وبحساب متوسِّط لعمري، أكون قد ولدتُ سنة 1932.» نَجِدُ هنا هذا اللعب المبكّر بما يشكّل بالنسبة إلى الفرد ما هو أكثر الأمور جِدّيّة: تاريخ ميلاده، لحظة دخوله العالَم. اكتشف الباشا بيروت منذ أن كان طفلاً، لكنّه، خصوصاً، اكتشف فضاءً مدينيّاً بامتياز. محلّة راس النبع، مسقط رأسه، استكشفها كلّها طولاً وعرضاً، وذهب إلى مدرستها، عند الشيخة، وقطع المسافة إلى بلدة عالَيْه، حيث كانت العائلة تُمضي أشهر الصيف الثلاثة، ناقلة معها العفش، أثاثاً وبُقَجاً، في عربة طنبر. التنقّلات تُكوِّن الشِعر. نتعلّم العالَم الذي يتحرّك، وشيئاً فشيئاً، ترتسم رُقعته – في هذه الحالة، المسافة بين بيروت وعالَيه، على طريق دمشق. وعنصر آخَر ترك أثره في الطفولة هو زيارة الأقارب في ضاحية عين المرَيْسة واكتشاف كثبان الرمل الأحمر وزروع الصبّير التي ترسم حدود المِلكيّات في بيروت القرن التاسع عشر. كان في إمكان الحنين وحده تأدية ذلك: رائحة البحر، ولطمات الأمواج، وأحياناً، الذئاب.
كانت عناصر شاعريّة الباشا ماثلة في عين المرَيسة ذلك الزمن، عندما كانت النسوة لا يستحمِمنَ في البحر نهاراً: كنّ يصطحبن الأولاد للاستحمام ليلاً. وسيحفظ الرسّام دوماً ذكرى النسوة والبحر الليلي هذه. أمّا ما خصّ الفضاء المديني، فهو ينبني بالعلاقة بين الأحياء. فشواطئها الملوّنة هي ما سيقع عليه بصرنا في اللوحات التجريديّة، الصفائح الخشبيّة المقطّعة والملوّنة، اﻟﭙَﺰل الذهني المُعاد تكوينه، وفْق عنصر استدلال هو الصلة بين حيّ وآخر.
كان والد الباشا موظّفاً على الصندوق في بانكو دي روما، وتابع الرسّام تعليمه في المدرسة المخلِّصيّة الواقعة في محلّة كركول العبد والتي كان يديرها الأب اﺳﭙﻴﺮيدون رياشي. أمضى في هذه المدرسة بضع سنوات هادئة وسعيدة وكان الأوّل في صفّه في التعليم الديني وكان يُقَدَّم للتلامذة الآخرين كمثال يُحتذى. عمل بعد ذلك مستخدماً لدى معلِّم ديكور، مكلَّفاً، كما كان يروي متهكّماً، بالذهاب إلى البحر دافعاً أمامه عجلة نقل ليجمع فيها الحصى والصخور الصغيرة المستعملة لتزيين واجهات محالّ باب ادريس.
ثمّ اشتغل في إذاعة الشرق Radio-Orient، دون أن يقطع صلته بالرسم. وتعرّف آنذاك إلى الرسّام الهنغاري لوكوس Lokos، الذي كان يصطحبه للرسم على النموذج في الطبيعة، وظلّ يشجّعه حتّى سفره إلى الولايات المتّحدة سنة 1953. كان خال الرسام موسيقيّاً محترفاً ورسّاماً هاوياً. وكان لهذا التقاسم بين النشاطين، وهذا اللعب على المجالين، أهمّيّة كبيرة بالنسبة إلى طفل، إذ اعتبرهما كأمر طبيعي. وسنجد في رسمه التجريدي لاحقاً لعب الموسيقى والخطّ واللون، خالقاً أشكالاً لا صلة لها بالعالَم المحسوس. وظلّ الباشا يبدي دائماً سهولة كبرى في الكلام على الموسيقى وفي مزاولتها، في حين انّه كان عاجزاً تماماً عن الكلام على فنّ الرسم.
خطا الباشا خطوته سنة 1954. ففي تلك السنة، إذ أنهى شقيقه البكر دروسه الموسيقيّة، بات لا يرى سبباً يحول دونه والانصراف إلى ما يرغب في عمله. انتسب بالتالي إلى الأكاديميّة (ألبا) وتابع فيها الدروس حتّى سنة 1957. فاز تلك السنة، في مباراة نظّمتها السفارة الفرنسيّة، بإقامة في باريس لمدّة أربعة شهور. لكنّه استقرّ هناك عشر سنوات، حتّى سنة 1968، وتزوّج سنة 1966.
أراد لدى عودته إل لبنان أن يستجمع لنفسه صُوَراً شخصيّة مبرقشة، لكن بألوان صارخة، كان مُفعِّلها اﻟﭙﻮپ آرت Pop Art في استخدام الصورة الشعبيّة. كان فنّ الرسم يمثّل بالنسبة إلى الباشا عودة الذكريات. رَسَمَ البحر لكونه، في طفولته، كان يسمعه دون يراه، في الغرفة ذات النوافذ العالية في عين المرَيسة. غير أنّ البحر كامن في عالمه الداخلي، ويكفي اللون لقول الواقع عندما يكون الواقع جزءاً من العالَم المحسوس. فهذا الذي يستسهل الكلام على الموسيقى ويستصعب الكلام على الفنّ، يستطيع بالتالي أن يرسم بحاسّة السمع أو بحاسّة الشمّ. إذ إنّ فنّ الرسم، أشكالاً وألواناً، يستطيع أن يحلّ محلّ كلّ الحواس الأخرى: في ذلك استفادة من الدرس الطيِّب الذي يقدِّمه كليه Klee وماتيس Matisse. فالشِعر في الرسم يولد من إحلال حاسّة محلّ أخرى، من إنقاذ الحواسّ بالتِربَنتين وبماء الأكْوارِل.
لم يكن الباشا يطالب بهويّة، بل بالانغماس في بيئة، وبالتعبير عن هذه البيئة البيروتيّة، والمتأوربة في الوقت نفسه، التي نَجِد مَعالِمها لدى آخرين من التشكيليّين ورسّامي الأكوارِل. فكرويّة العالَم، المتبسِّمة والسعيدة بالضرورة، بالنسبة إلى الباشا، كانت عبارة عن مشروع لوحة للتأليف. كان لديه رؤية حداثيّة لتقليد الأكوارِل السُنّي؛ ليس لجهة الموضوع المعالَج ومعالجته وحسْب، بل كذلك لجهة الأخذ بفكرة نوع فنّي ينحو من الاحساس إلى الادراك. كان يضع نفسه ضمن الخطّ الذي أنجب رسّامين مثل مرزوق وعيدو داعياً إلى التداخل مع أوروﭘﺎ بالمعنى الحَرْفي للكلمة، كما كان يفسّرها الجيل الذي بلغ سنّ العشرين عند استقلال لبنان. وأضاف الجيل التالي مطالبه المتعلّقة بالخصوصيّة والهويّة، السياسيّة في حدّها الأبعد لتقول إنّها ليست طائفيّة حصراً، في حين أنّها، والحقّ يقال، كانت كذلك.
أقام الباشا معرضاً سنة 1959 في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وسنة 1960 في المدرسة العليا للآداب، وسنة 1961 في صالة هرموش، وسنة 1967 في صالة مانوغ، وفي نيسان/ إبريل 1968 و1970، في دار الفنّ، ومن31 تشرين الأوّل/ أكتوبر حتّى 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1972، وسنة 1973 في صالة كونتاكت.

أمين الباشا في محترفه، بيروت، 1992

أمين الباشا في محترفه، بيروت، 1992

أمين الباشا في محترفه، بيروت، 1992

أمين الباشا في محترفه، بيروت، 1992