
كسونتفاري، الحجر القرباني في بعلبك، 1906-1907

كسونتفاري، الحج إلى أرز لبنان، 1907-1908

كسونتفاري، منظر بعلبك، دون تاريخ

كسونتفاري، الحجر القرباني في بعلبك، 1906-1907
كسوﻧﺘڤاري، ميهالي ﺗﻴﭭﺎدار كوشكا، الملقّب بِـ
كيشبن (المجر)، 5 تمّوز/ يوليو 1853 - بوداﭘﺴﺖ، 20 حزيران/ يونيو 1919
درس كسوﻧﺘﭭﺎري Csontvary الصيدلة في المجر والفنّ في ألمانيا وفي باريس.
قام بعدّة رحلات إلى الشرق الأدنى، أوّلها سنة 1903، وكان دائماً يرسم على النموذج، مثل لوحته بعلبك سنة 1905، وهي لوحة من 32 متراً مربّعاً، و الأرزة المنعزلة و حجيج إلى الأرز 1907 ـ 1908.
جال في أرجاء العالم، يحدوه معتقده عن الخلاص عبر الفنّ والتعبير الفنّي، الخلاص الذي يُعتبر لبنان، في نظره، أحد المواقع الطبيعيّة لتَجَلّيه.
لذا نراه يذهب مباشرة إلى الرمزين الأساسيّين للبلد، الأرْز وبعلبك، بحِسّ الكاتب والمُخرِج المسرحي الذي يَظهَر ثاقبُ نظرته بجلاء لا يرقى إليه شكّ.
يضيء كسوﻧﺘﭭﺎري تشكيلاته الكبرى بتعبيريّة لونيّة فاقعة تنحو إلى التصوّفيّة وذات خلفيّة رمزيّة يصعب فهمها أحياناً، لكنّها أخّاذة بمناخ الغرابة الذي يكتنفها.
وهو كصيدلي روح أكثر من كونه عطّاراً، كصيدلي ماورائي وهذياني مأخوذ بالمجر أكثر منه بالامبراطوريّة النمساويّة - المجريّة، أعطى خيمياءَ الغرابة، التي تعنى بالروح وبالتسآل التصوّفي، إجابةَ فنّ.
لبنانُ في نظره رمز وتجسيد، عناصر، وإشارات، ومناظر، وتوقّعات لعالَم داخلي.
يحتلّ كسوﻧﺘﭭﺎري في تاريخ الفنّ اللبناني أحد المواقع الرئيسة ويلعب دور العبقري الغائب. يكون مُشبَعاً بالمكان إلى حدّ عيشه وتجسيده كما لا أحد ممّن عاشوا فيه ورسموه. فبعلبك لا تعود معتبرةً هياكلَ منقولةً في لوحته بل لوحة منقولة في هياكل.
رسم كسوﻧﺘﭭﺎري المكانين الأساسيّين في لبنان، لكنّه، في حقيقة الأمر، عاشهما. وسيكون في المحصّلة قد جسّدهما، أي رسمهما كما لا أحد. ما يبديه من سذاجة ظاهريّ وحسْب نظراً إلى أنّه وسيلة لاستجلاب الموضوع إليه. وهل كان في وسعه أن يدانيه على نحو آخر؟ الأرْز في المقام الأوّل و بعلبك في المقام الثاني.
من شأن الرسم الاستشراقي أو رسم الرحلات أن يُجمِّد الملمح، الخطّ والمؤدّى، إلى حدّ استحالة إضافة شيء ما عدا التشابه.
أمّا كسوﻧﺘﭭﺎري فلديه مدخل آخر ودلالة أخرى لهما أقلّه تفسيران. العالَم الذهني الداخلي والرمزي الذي يُسقطه على بعلبك و الأرز كتفسير مهلوس لا يرى له تطبيقاً إلّا في هذه الأمكنة.
لكن من الممكن حتّى، إلى هذا التفسير، أن يكون قد استعان بتوثيق أوّلي في «كتاب عقيدة» يقوم انطلاقاً منه بالبوح برؤياه الخاصّة مباشرة.
فالمهمّ في الأمر هو بالتأكيد رؤيا كسوﻧﺘﭭﺎري، بما يشحنه من قوّة شاعريّة، وبطريقة إحلاله الخيالي في الواقعي. إنّه يرسم بعلبك، القرية والبيوت حول الهياكل. وإذا بها مكان سيجعله برؤياه أكثر قابليّة للسكن. لوحته الاحتفال في بعلبك، تماماّ كلوحته الاحتفال في الأرز، يكفي رؤية تخطيطاتهما الخاطفة، ورسومهما التمهيديّة لفهم أنّ الفنّ يشكِّل بالنسبة إليه مكاناً نهائيّاً لتحقيق الانجازات.
إنّه الفنّان الرؤيوي الوحيد للبنان. فجبران خليل جبران يُبحِر بين رودان Rodin وكاريير Carrière في مناخ ملائكي حذِر. ورؤياه تقوم على تَشوُّش المؤدّى، في حين أنّ أرز كسوﻧﺘﭭﺎري يحمل أثر تجربة صوفيّة للبنان خاصّ بالفنّ، حتّى لو لم يكن من الممكن استبعاد احتمال استخدامه التصوير الفوتوغرافي لرسم القريةكمونتاج للبنان باعتباره اختباراً لتداعيات وتجربةً جماليّة.
يوسّع كسوﻧﺘﭭﺎري حدود إدراك اللوحة، فما يمثّل وما يصف حَرْفيّاً هو المرئي من مُتَخَيَّله. إنّه يوزِّع فيه عناصر المكان وروحه، الربّ الغامض في العبادات المحلّيّة. فالأحرى بنا الرجوع إليه ليس هذه الوثنيّة بل تجربة الفنّ. روح المكان هو الفنّ نفسه.
هذيانات تأويل المعطيات الأولى لذُهان الهذيان، اﻟﭙﺎرانويا، ليست الشرط الضروري لخلق عمل فنّي. لكنّ هذه المعطيات رافقت موهبة حقيقيّة في تحقيق الانجازات ومنطقاً داخليّاً على ما يكفي من التماسك كي يخلق، انطلاقاً من هذا التأويل، أعمالاً رمزيّة تُعرِّف روح بلد، بوسائل تخصّ الفن ليس إلّا.
هذا عدا أنّ على الهذيانات الذُهانيّة أن تتحمّل قسطها من الأصالة، بمعنى الهذيان الحقيقي من أجل ممارسة تعبيريّة.
ليس كسوﻧﺘﭭﺎري من أتباع ﭘﺮينزهورن Prinzhorn ولا «الفنّ الخام» بل من القائلين بالاستخدام الذكي للمسرح الداخلي، الصوت الذي يتناهى إلى سمعه قائلاً له: «ستكون أعظم الفنّانين».
كان ذلك في حاجة للوقوع على مكانَي البُعد الروحي في لبنان. وهذا كان يتعلّق بمحاولة جعل أهمّيّة الهذيان في متناول الادراك الحسّي عندما لا يكون مفتعلاً، وكذلك بمحاولة إظهار تمفصل الهذيان في ممارسة للفنّ تفضي إلى معنى ولا تشكّل ساتراً.
يعطي كسوﻧﺘﭭﺎري التماسك لعالَم باطني لا تكون غاية إيصاله البصري أن يحمل الأطفال، مثل هذه اللقالق البيضاء حول أغصان أشجار الأرز، بل أن يحمل المعنى، والضوء الأخضر، ورمزيّة الألوان.
تَدَيُّنُهُ هو تَدَيُّنُ هذيانه كما أنّه ذلك التَدَيُّنُ نفسه الذي يجرّ الآخَر إلى أرض الممكن، لا لدعوته إلى تقليده بل إلى النظر إلى هذا الذي بواسطته يكون شأن تمثيل الخيالي المخطَّط له أن يستجيب لفنّ الرسم، الربّ الأبكم، وليس للنادرة العَرَضيّة الثرثارة التي لا تَكفّ عن الكلام.
إنّ الجمع بين الأبعاد الذُهانيّة الهذيانيّة والأبعاد الباطنيّة في رسم لوحاته يجعل هذا الرسم أقرب إلى البداهة بقدر بقاء الرمزيّة مقروءة في الدرجة الأولى في المنظر الطبيعي وفي تأويله، حتّى خارج دلالة المشهد.