
1973 - 1975 ،فادي برّاج، تجريد

فادي برّاج، دون عنوان، 1971

فادي برّاج، إنبات، 1973

1973 - 1975 ،فادي برّاج، تجريد
برّاج، فادي
بيروت، 1940 – 1988
كان كلّ شيء في الظاهر يرسم مصيراً لفادي برّاج، المولود لأسرة بيروتيّة، في خلافة والده في المؤسّسة العائليّة لتجارة الحبوب. لكن كيف يمكن ألّا نرى في الآليّات التي ستجعل منه رسّاماً النداء الملِحّ من طموح ومن موهبة؟ وقد كان حتّى البكالوريا تلميذاً في مدرسة برمّانا العليا حيث اكتسب تنشئة ثقافيّة أنغلو ـ ساكسونيّة.
كان إطار الحياة الذي توفّره المؤسّسة مع انضباط بريطاني بامتياز – خصوصاً لتلامذة القسم الداخلي – أفضل مدخل إلى ما تُقدِّمه من تنشئة ثقافيّة: ﭘﺮوتستانتيّة إنكليزيّة، مكيَّفة لتلائم الشرق الأوسط وتبثّ علمانيّتها العميقة، وأمانة أساسيّة إزاء الكلمات وإزاء العالَم، وﭘﺮاغماتيّة ذات رغبة عارمة بالفعاليّة لا تزدري الثقافة المستقاة من تقاليد قديمة. كان يُنظَر إلى العالَم كموضوع للاستكشاف وللتحويل. وكانت حدّة تحليل ذاتي دائم مسهَّلة بتَملّك لغة يقال فيها كل شيء باختزال إيحائي، في مستوى ثرائها، وليس للحياة الداخليّة فيها من حدود سوى واجب عدم الضياع في مثاليّة ضبابيّة. كانت التربية موحاة من التجريبيّة، وخصوصاُ، من هذا الاعتبار الأساسي: المثاليّة لا تسمح بالذهاب بعيداً بما يكفي في تحليل أشياء العالَم ومعالمه.
كان فادي برّاج يهتمّ في المدرسة باللغات القديمة وبالعلوم الطبيعيّة وبالأدب الفرنسي. والحال، كانت التنشئة الفرانكوفونيّة آنذاك تهمل العلوم بالنسبة إلى عنايتها بالآداب. استهوته تجهيزات قاعة العلوم الطبيعيّة ونشأ على الاهتمام بدِقَّة الرسم وبمراقبة الطبيعة وبالإرث الدارويني القديم الذي كان لا يزال مثيراً للنقاش. في مثل هذا المناخ يكون الرسم دائماً نفعيّاً، بل إنّ جمال الرسم نفسه يكون متوقّفاً على هذه الخاصّيّة: رسم تزييني، تشريحي، للحيوان والنبات. وسيبقى هذا الطابع الوصفي في كُمون إذ كان برّاج يجد في اللغة اليونانيّة القديمة ما كان يمكن أن يهمّه يوما في الرسم كحقل تَكوُّن فكري. وكان من الطبيعي تماماً أن يعتزم مواصلة دراسة هذه اللغة واختار جامعة شيكاغو لهذه الغاية، وربّما، أيضاً، لِبُعدها. فوراء رغبته في دراسة اليونانيّة في أميركا، كان يحدوه عزم مُضمَر: عزم على القطع النهائي مع ما يشدّه إلى وسطه الخاصّ ونمط عيشه، مع ما كان يمكن أن يُعتبَر كاندماج. هنا تحديداً يعمل سحر الأصول، هذه الفكرة الأوّليّة الغامضة والشاعريّة إلى حدّ بعيد. كان يريد أن يقرأ اليونانيّة القديمة، كما لو كان ذلك فكّ رموز بداية العالَم، لكن في عالَم آخر.
ظلّ برّاج لأمد طويل، خصوصاً بعد عودته إلى لبنان سنة 1968 منهياً إقامة في باريس دامت أربع سنوات، يلجأ إلى مراجع بنيويّة ومنهجيّة يونانيّة. وقد وجد في أرسطو منهجاً علميّاً، ورؤية عملانيّة، وعلاقة بالعالَم، وتأثّر بأفكاره في الماورائيّات والجماليّات. واقعيّة أرسطو ترى في العمل الفنّي الشكل المضمّن في الشيء المحسوس. وترى في الفنّان بالتالي حِرَفيّاً، متملِّكاً من مهنته، ينصبّ عمله على الواقع ويستهدف استخراج الشكل الداخلي. ذلك أن شكل العالَم عبارة عن ماهيّته. يتكرّر هذا المعطى الأساسي في الرغبة في ممارسة فنّ معيّن وفي عيشه. هكذا، يصبح العمل الجمالي، في الفنّ المستند إلى البحث، أخلاقيّةً، وتمسي تجربة الأشكال، بكونها مرتبطة بالواقع، انفعالاً أمام جمال العالَم، وفنّ اكتشاف وكشف، وإضاءة للحياة وللمعنى.
لا تعود قضيّة الرسم، انطلاقاً من هنا، مطروحة على المستوى الفكري. فهي تُختصر بالبحث عن هذا الـ«شيء ما» الكامن وراء الرسم، ألا وهو الرسم وقد اختُزِل إلى الجوهريّ فيه لأنّه يصبح هو الجوهري. لكن كيف يمكن تعريف هذا الـ«شيء ما» على نحو واضح، بتعابير أقلّ بلاغة من البحث عن الطفولة، الصور الأولى، البحث عن الأصل، وعن الطريق، وعن المكان: السرّ الذي كلّ شيء فيه واضح، وكلّ شيء فيه، مع ذلك، يتوارى؟ بهذا المعنى يكون ليوناردو دفِنتشي Léonard de Vinci رسّاماً، كذلك شاردان Chardin ولونان Le Nain وﭘﻮل كليه Paul Klee.
ومثلما كان برّاج قد تشرّب أرسطو روحيّاً، كذلك كان شأنه، بخيار حرّ، مع ﭘﻮل كليه الذي أمّن تنشئته كرسّام. كان ﭘﻴﻜﺎسّو يقول لكليه: «أنت ﭘﺎسكال فنّ الرسم.» ومع أنّ أعمال هذا الأخير كانت كثيراً ما تُستعاد، فقد ظلّت غير معروفة على نطاق واسع في فرنسا الستّينيّات، شأنه شأن الباوهاوس Bauhaus والرسم الألماني لفترة ما بين الحربين.
لم تُنشر كتابات ﭘﻮل كليه النظريّة كاملة إلّا بعد ذلك بعشر سنوات، أي في وقت كان برّاج قد خطا في أعماله أبعد من أن يتمكّن من الإحجام عمّا عمِل. كان برّاج قد دأب على جمع كلّ ما يتعلّق بهذا الرسّام: كتابَين عنه لغروهمان Grohmann وكلود روا Claude Roy، مذكّراته، التي نقلها إلى الفرنسيّة Klossowski وصدرت عن دار غراسّه Grasset، صُور للوحات له على بطاقات بريديّة، بعض الكاتالوغات وألبومات صور فوتوغرافيّة، لغة مختلفة، لكن غالباً ما تكون على القدر نفسه من الفصاحة.
أكسبه كليه معنى الحِرفة في الرسم، والاستقامة في الوسائل وفي المهنة، في الموادّ والألوان، وبناء الأشكال، وخصوصاً، هذه الرؤية التي ليست مجرّد نظر.
كان كليه، بهذا المعنى، كلّ فن الرسم الحديث مُساءَلاً ومُمارَساً، من بلاو رايتر Blaue Reiter إلى التعبيريّة التجريديّة. كان قد فكّك لغات الرسم الحديث على اختلافها؛ لا شكّ في أنّ تحليلاته، وتمارينه العمليّة، تجعل منه رسّاماً للرسّامين، إلّا أنّ هنا تحديداً يكمن مصدر قوّته، وهذا كان الدرس الذي استخلصه برّاج قبل أن يغادره مثلما يغادر التلميذ كلّ معلّم جيّد: مع التطلّع إلى الجوهري، ينتهي الأمر ببلوغ الهدف. لم ينقطع رسمه عن مساءلة طويلة ثقافيّة وفرديّة.
من الممكن بسهولة تصنيف المثقّف في ترتيب للأشياء بحيث يكون في ابتعاده بحياته عن الأضواء إظهاراً للمسائل وكأنّها محلولة سلفاً. كان برّاج ينتقد بقسوة ما كان يبدو له، في لبنان، بيئة مفرطة في تأثّرها بالجوانب السيّئة من الثقافة الفرنسيّة أكثر من تأثّرها بالجوانب الجيّدة من هذه الثقافة. لكن كان يبدو له، بالمقابل، أنّه لا يستطيع الانقطاع عن شريحة مهمّة من الجمهور والهواة من اللبنانيّين المتكلّمين بالفرنسيّة الذين كانوا بعيدين عن أن تنطبق عليهم جميعاً هذه الصورة الكاريكاتوريّة.
لم يكن ما تقتضيه إرادة الخلق من قلق ورفض وشكّ وخوف وانبهار ليجد مكاناً له ولا تبريراً في المجتمع اللبناني، حيث يطغى الاستسهال في كلّ شيء. فقد أمعن أعضاء هذا المجتمع في تعوّد المجاملة في جماليّة فنّ الرسم، بحيث تبدو ممارسة الفنّ إضافة إلى الحياة، شيئاً ملحقاً بها لا تعويضاً عن نقص بل اصطناعاً.
كانت باريس، التي حلّ برّاج فيها سنة 1964، بعد أربع سنوات من دراسة اليونانيّة في شيكاغو، تؤدّي دوراً مهمّاً بالنسبة إلى كلّ فنّان يواجه مسائل خلق، حيث تُطرح رمزيّة المسافة والمنفى، الابتعاد عن بيئة وعن مجتمع باسم خيار الذات. فالجانب الشاعري من رؤية برّاج خلال هذه السنوات الباريسيّة لم يعد يظهر كشيء نهائي، بل كطريقة في الرسم بين طرائق أخرى. بدت «مدرسة باريس»، ابتداء من 1965، في حالة فقدان توازن أمام اندفاعة فن الرسم الأميركي – التعبيريّة التجريديّة، واﻟﭙﻮپ آرت Pop Art – لكنّ باريس واصلت، أقلّه، القيام بدورها كمركز حيّ، كمكان يمكن فيه رؤية فن الرسم.
عاد برّاج إلى بيروت عند وفاة والده. وأقام معرضيه الأوّلين في مقرّ جريدة لوريان L’Orient البيروتيّة، أوّلهما سنة 1968، والثاني من 17 إلى27 شباط/ فبراير 1971. وتلاهما معرضان آخران، الأوّل من 10 إلى 22 شباط 1972 في «دار الفنّ»، والثاني سنة 1974 في غاليري مودلار Modulart. وانتقل في السنة نفسها 1974 إلى مرسم جديد في باب ادريس، تعرّض للاحتلال والنهب في بداية الحرب، سنة 1975. سُرق إذّاك أكثر من 1500 لوحة كانت مخزّنة في المستودع هناك. لم يكن في هذا السكن تعبيراً عن حنين – لم يكن يُنظَر إليه على هذا النحو آنذاك – بل كان يُعزى ببساطة إلى المريح عمليّاً: مقرّ للمرسم بسعر رخيص، ومسكن منفصل عن البيت العائلي.
لعب دوراً في هذا الخيار همّ الاستقلال والقرار الحرّ، ورغبة في تأمين العيش من العمل الفنّي ودخول اقتصاد السوق.
كان هذا السكن مهمّاً خصوصاً لافتتاحه طوراً جديداً: كان يُسجِّل انفتاحاً على واقع لم يعد ذلك الواقع الحميم مع ما أضفي عليه من شاعريّة نرجسيّة، وبات تفسّحاً في المدينة ونمطاً من العيش معها وفتح العينين على واقعها. يجري هذا الانتقال من التجريدي إلى التصويري لدوافع اخلاقيّة، لكنّه قد يكون أيضاً لدوافع ترتبط بالحياة اليوميّة.
أمّا في ما خصّ المدينة، فهي تكتسب شاعريّتها على نحو مختلف، بالارتباط أوّلاً بالأماكن نفسها، لكن بتمثّل التجربة في الرسم أيضاً. الأمر الذي يحيل إلى مستوى آخر لايتعلّق بمجرّد مغادرة المسكن العائلي. والحال، إن خصائص وسط المدينة هذا، كمركز عبور ولقاءات ومتاجرة، ما كانت لتكون خصائص مكان شاعري لو لم يكن الوسط نفسه قائماً على أساس من بيروت القرن التاسع عشر. لو لم يكن مكاناً لسكنى من هم الأكثر فقراً: بضعة بيوت قديمة، في أوضاع مزرية أحياناً، وحقيقة السكنى هناك مع انتفاء أيّة امكانيّة للانتقال الى مكان آخر. بدا أبناء المدينة الطارئين هؤلاء، في نظر الذين كانوا يعون حال بيروت في القرن التاسع عشر، في غير مكانهم بين المكاتب والمستودعات وحوانيت التجارة التي كانت تضيّق عليهم.
إهتمّ برّاج بالسياسة، دون أن يتسيّس؛ جاء السياسة جزئيّاً عن طريق الاجتماعي، إذ إنّ عودته إلى الرسم التصويري، بمعنى أنّ أخذه الواقع على عاتقه يطال الواقع بكامله. كيف يمكن أخذ الناس نماذج للرسم دون الانصات لهم؟ والحال، حتّى المراقبة من بعيد يمكن أن تكون نوعاً من الانصات. كان مفتاحه المفضي إلى ذلك مجموعة مختارات من رسوم رامبراندت Rembrandt في عدّة مجلّدات. التشطيبات، وتدرّج الظلّ؛ هكذا جاءته تقنيّات الرسم في الوقت المناسب، عندما كان في حاجة إليها. يمكن أن يُعزى الاشتباه بوجود بشري إلى الشغف نفسه، وإلى الهمّ نفسه، في رسم جمجمة أم محارة، لافرق. لكن كان يُضاف إلى ذلك – والمشاكلة هنا مهمّة – كونه صار مذّاك يرغب في العيش بين البشر لا بين المحار. كان ذلك أقلّ ارتباطاً بفنّ ملتزم منه باختيار نمط عيش.
يدهشنا منذ اللقاء الأوّل مع رسم برّاج ما يأخذه على عاتقه من تجديد: الرغبة في عدم الهروب من إرث الرسم في العالَم. لكن ربّما يكفي المرء، ليكون على هذا النحو، أن يكون رسّاماً. يخرج رسم برّاج، منذ المنطلق، من الجلبة الذهنيّة التقليديّة الخاصّة بفنّ الرسم اللبناني، طارحاً جانباً بصورة نهائيّة الواقع الحقيقي والتشابه المصطنع، تقليد المنظر الطبيعي وسمو النفس. فبالمقارنة مع جيل الرسّامين الذي سبقه – كانوا على الأكثر نحو خمسة عشر، خلال الستّينيّات – ممّن كانوا قد جابهوا التجريد في انقسامات متتابعة شملتهم كلّهم تقريباً، بانفصال عن النفس أليم ومدروس، يظهر برّاج كالرسّام الذي يمكن أن يعتمد التجريد لغة له.
تُمثّل أعماله، ضمن السياق التاريخي للفنّ اللبناني، تمايزاً جوهريّاً: للمرّة الأولى نشهد نتاجاً فنّيّاً ينبني بمساءلة تاريخ الفنّ وبجعل ثقافة الرسم منطلَقاً لكلّ رسم فنّي. كان وضع الفنّ اللبناني، ثقافيّاً، في غالب الأحيان، كما يلي: يسافر الرسّام ليعيش بضعة سنوات في باريس، ويشهد ما يجري هناك، ويعود إلى بيروت، وتُحَلّ مشاكله كلّها. ثمّ ينصرف إلى تطوير عمله في الرسم تلبية لطلب من عابر سبيل، أو من ملل المحيط. كان تطلّبه الذي حفزه في المنطلَق ينتهي مراوحاً في السأم أو متخبّطاً في اليأس بتأثير مِن صُدع لا واع.
لم يعرف برّاج هذه المشكلة، لكن، أقلّه، كان عليه أن يجتاز مجدَّداً تجربة سنواته الباريسيّة كي يحقِّق عودة جديدة ناجحة. فالخطر الذي استطاع أن يَتجنَّبه هو أنّ كلّ شيء كان يمكن أن يجد حلّاً على نحوٍ أدبي، في شاعريّة وسائل الرسم، وفي ملاحقة الغاية المستحيلة. وهي غاية غامضة وبعيدة بالتعريف، يصبح زوغانها الدائم وسيلة العيش الوحيدة والدافع إلى البحث.
ما يجعل تحليل أعمال برّاج صعباً لا يعود إلى توزّع أغراضها، أو إلى كونها غير مرفقة بدليل تبريري، إنّما إلى شاشة قراءة للفن مستدامة تنزل ما بين مجموع نوايا العمل وتَحقُّقِه العملي، دون أن تكون إضاءته تبريراً له بإدخالها في سياق تاريخ للثقافة، إلّا ذلك التاريخ نفسه المفروض علينا ليس باعتباطيّة ما، بل بما يجعل عملاً ما وطموحاً يقعان في فخّ ما يحدوهما من رغبة.
تشكّل الصنعة عند برّاج الخطوة الأولى الضروريّة لخلق العمل الفنّي من الداخل الحميم. من هنا يجيء تأديب الشكل أيّاً يكن منحاه، بما فيه حتّى «تعذيب» كليه Klee، ومعه، كمقابل مصاحب، التدمير كوسيلة لتجاوز الصنعة، وليس بالضرورة نحو شيء أكثر انسانيّة، إنّما عبر تَملّك أكثر تشابكاً. ويُطلِق التدمير علاقة تناقض تُحفِّز الرغبة في الاشتغال على العمل الفنّي عند تشكيله وعند خلقه. كذلك، كان الاكتشاف الرئيس الذي حقّقه برّاج، بالنسبة إلى النفسيّة التكوينيّة لدى الفنّان اللبناني، أنّه أدخل فكرة التدمير هذه، في شخصيّة الفنّان، كعنصر أساسي.
يطرح برّاج بوضوح مسألة التناقضات والتصادمات بين الثقافات المحلّيّة، بفضل الاضاءة المختلفة والأصيلة التي مَكَّنه منها بنيته الاجتماعية ـ الثقافية، وتربيته اﻟﭙﺮوتستانتيّة، ودراسته الآداب اليونانيّة في الولايات المتّحدة. نضيف إلى ذلك باريس ومصاعبها، باعتبارها الخرق الأبعد نفاذاً يحقّقه الانفكاك عن الصفة الاجتماعيّة عبر المنفى، وما توفِّره المدينة من التعرّف الشاعري على الذات. إنّ واقع كون برّاج مشاركاً بعوامل مشتركة في تقاليد الانفتاح على الآخر كان يجعله دائماً في وضع مفارقة مع الثقافة الأوروبية. كان ذا ثقافة أوروﭘﻴّﺔ، ولا شك، لكنّها أنغلوفونيّة لا فرانكوفونيّة، وإنكليزيّة لا أميركيّة، على الرغم من سكناه مدينة شيكاغو، ثقافة حملت، بخياره الشخصي، سمة ماضويّة باللون الشاعري لليونان مكاناً يرى فيه ذاته ويحقِّقه.
أمّا فيما يخص فنّه فالأمر أكثر تشابكاً: تتعدّد هنا المُؤثِّرات، متناقضة وعلى تفارق في الزمن. يضع برّاج كلّاً منها في مجابهة مع الثقافة التي كوّنها لنفسه ومع مخزونه من المعارف التي تُشكِّل، في صدد الرسم، مرجعه والنموذج لعمله. وبرّاج، في هذا الإطار، هو أحد الفنانين النادرين الذي يطرحون مشكليّة فكريّة تخصّ الفنّ. وهذا ربّما يعود أيضاً إلى تكوين وإلى مقاربة وإلى حساسيّة ذات طبيعة أدبيّة. كانت تساوره فكرة أنّ ما يعيشه ربّما كان مغرقاً في الابتعاد عن الحياة، لكنّه كان مزمعاً على الاضطلاع به وعيشه. كان يأخذ منتهى الاصطناع على انّه حقيقة الفن والحياة. ويعود إلى ﭬﻜﺘﻮر حكيم التعبير عن هذه الدراما بصياغة ساخرة: إبن تاجر القمح أخذ يرسم تاريخ الافلاس.
عندما يُطرح، في شأن برّاج، السؤال: «إلى أيّ مدى يمكن أن يصل ابن البرجوازيّة البيروتية الميسورة الذي درس على اليونان؟»، يتبادر إلى الذهن مشروع غير تجاري. مثل أنّه أراد، ربّما، أن يكون كاتباً، واستهواه أن يكرِّس حياته للأدب. فبالنسبة إلى لبنانيّي تلك الفترة، كانت الكتابة بلغة قابلة للانفتاح الطريقة الوحيدة لتلافي سحق حساسيّتهم وللتعبير عن هويّتهم. لكنّه عندما أدرك أنّ الفنّ كان يمكّنه كذلك من التفكير في شأن حياته عن كثب وبحميميّة، تراجعت الكتابة في نظره إلى مرتبة أداة بسيطة.
لماذا يصل المشروع إلى طريق مسدود؟ الجواب عبارة عن مفارقة: ربّما بسبب الاسراف في بلاغة الأساليب والمقاربة بالنسبة إلى واقع خام كان يُراكِم، في تشابكه، مراتب وشعوباً وأنماط تفكير، في اختلاطات وتنويعات، تجعل من الأصعب، أكثر فأكثر، أخذ الأمور في الحسبان. ما الذي كان في مقدور الرسم، عدا عزل التفصيل، وتشريحه، والامعان في التشريح حتّى أقصى مداه، لكن دون القدرة على أن يجعل من جمع التفاصيل تركيباً مرئيّاً ومفهوماً؟ من هنا كانت هذه اللوحات البيضاء، المغطّاة بتشعّبات دقيقة بلون تربة سيينّا، هذه الأشكال التي تتشوّش ما إن تأخذ بالدلالة على شيء محدَّد، هذا الرسم الشاهد على متعة الرسم أقلّ منه على التردّد في نوع من الحيرة النفسيّة. مرحلة تُعادل مرحلة 1968، تتميّز بالمائيّات الكبيرة «العصبيّة» التي كانت قد ساعدت، بطابعها الحرّ، على أن يطوي النسيان ما يُنسب إلى ﭘﻮل كليه من رسم يُزعم أنّه خارج عن السيطرة وكفاءة كانت تتقوقع في سيطرتها الخاصّة إلى حدّ أنّها في نهاية الأمر لا تعود قادرة على مواصلة التقدّم، وتظلّ دائماّ دون إمكانيّاتها، لكونها خاضعة لنتيجة مطلوبة ولنتاج كان يتوجّب تكراره. لم يتبقَّ ولو لوحة واحدة من هذه المرحلة. وهي لم تُعرض أبداً وسُرِقت كلّها سنة 1976.
عادت إلى الظهور بعد 1971 المواضيع الأكثر انتساباً إلى التصوير، من الحياة اليوميّة، مستعيدة أشكال السنوات السابقة، تلك الأشكال الرمزيّة والمؤطّرة، مثل تحليل يبلغ ختامه. فبازدياد استحواذ الواقع على ممارسة الفنّان، كانت تزداد مغادرة الاشكال التصوّرَ المسبّق للعمل، لتدخل اشتغالاً عليه يصبح اشتغالاً على بنائه. فالكروكي (croquis اللقطة الخاطفة) والرسم صارا أكثر تَحرُّراً، حرّيّتهما ووثوق اليد في تنفيذهما أكثر جَوّانيّة، بلا تخوّف من ترك القياد لليد دون التوصّل إلى ما في الامكان تَعرُّفُه، اللهمّ إلّا إلى مرآةِ تَردّد الرسّام نفسه. على العكس، كان برّاج يسعى إلى الحوار بين الأشكال المعطاة للعين. وتلك الأشكال الرمزيّة القديمة، التي كانت تُرى بنىً ضروريّة لبناء اللوحة، كانت قد انتهت بالذوبان في واقع بات يُملي – لكن ليس على نحو تسلّطي ووحيد الجانب – أشكالَه التي تخصُّه.
لم يكن هذا التطوّر – من المهمّ التنويه بذلك – عبوراً من أشكال تجريديّة إلى أشكال الواقع، حتّى لو كان الرسم يسجّل هذا العبور بالكامل عبر «تراكبات» طبيعيّة. وعلى أيّ حال كانت مسألة العبور هذه مسألة تقنيّة، لكن كان هناك كذلك مسألة تسيير شغل الرسم الذي لم يكن يقوم على رؤية مغرقة في البساطة لواقع يتزايد ثقله وللوسيلة المؤدّية إلى تثبيته في اللوحة، إنّما بالأحرى على التوتّر وعلى همّ البحث. ينبغي، فيما يتعلّق بمسائل الشكل، تمييز ما ينتسب إلى الرسم من أشكال الواقع؛ فالفارق هو نقطة العبور من شكل إلى شكل، وهو إمكان تكوين بنيان واقع الادراك البصري وإمكان تكوين بنيان اللوحة لا عبر ما يبدو عمليّة نفسيّة، بل من وجهة نظر تقنيّة: اللوحة كغرض محسوس.
تشوّشت الرؤية بعد 1975، وتدمير المرسم، والمنفى. كان ضياع هذا المكان المادّي والفكري في الوقت نفسه، بالنسبة إلى برّاج، مصدر شقاء كان من العمق بحيث يتعذّر قوله إلّا في شكل مفكّك. لم تعد أعماله، بعد 1975، إلّا الاخراج المشهدي لتدمير ذاتي مرتبط بتدمير لبنان، لا ككيان سياسي، بل كفضاء وكنمط عيش. كذلك كمادّة لما كان بالنسبة إليه عملاً دؤوباً للعودة إلى الواقع، بعيداً عن المرويّات الأسطوريّة وعن خلق رموز. كان مآل هذا التسآل وهذه التجربة هو العمل الجاري. بتدمير العمل كان برّاج نفسه قد تدمّر نهائيّاً.
كان عليه، في المنفى، أن يؤمًن مواصلة معيشته. كيف له أن يعيد خلق أماكن لا سحرَ فيها، لا ماضيَ مُعاشاً لها، وخصوصاً، بلا حرّيّة، بلا إمكان أن يختار لنفسه؟ كان أبعد من أن يلجأ إلى ثقافة من شأنها أن تكفيه لتعويض كلّ الأمور التي يفتقدها ويشعر بكونها أساسيّة، بكونها جزءاً منه على نحو حميم. فالشأن اليومي المتعسّر بات لا يتيح تبادلاً طبيعيّاً في التصوير والرسم. كان ينبغي إرجاع هذا اليومي، بأسرع ما يمكن، أوّلاً، كما بالمعنى الحَرْفي، إلى الانضواء تحت سمة ما يمكن تَعَرُّفُه، كي يتمكّن الآخرون من تعرّفه قبلك، وإلّا يكون كلّ شيء قد ضاع في التواصل. شغلٌ يتجاوز حدّ التحمّل في البدئيّة والاحباط بالنسبة إلى خبرة مديدة بواقع منفى، عالقٍ بين انعدام الثقة والحيرة بشأن اللحظة التي قد يتوجّب فيها التخلّي عن رسم مطارَد.
استتبع تشظّي هذه المسيرة انكفاءات، لكن كذلك، أحياناً، لوحات ذات قوّة فائقة، كما في محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها. واستتبع كذلك – حيث كان يؤمل الجانب الايجابي مِن «يُنَقِّل المرء مشاكله معه!» – اكتشاف كون الواقع، ابتداءً من حينه، وعلى نحوٍ ملموس ورمزي، جزءاً على قدر من الحميميّة في اشتغال الرسم وتطويره في حوار طبيعي، بحيث بات الرسّام يشعر أنّ هذا الجزء منه قد بُتِر.
ففيما يتعدّى المصاعب الماليّة، وكانت قد أخذت تضع ثقلاً ليس بقليل في الميزان، لم يكن من المجدي التفكير بالاقامة في باريس، إذ يتعذّر أن تجري تجربة هذه المدينة على نحوٍ بريء. والحال، كان يلزم وقت ليتوصّل المرء إلى أن يقول لنفسه إنّ ما عليه إلّا أن يواصل ببساطة التنقّل في الرسم بين أكثر من واقع واحد، فقد احتاج برّاج إلى خمس عشرة سنة ليتعلّم الانصات إلى واقع بيروت.
ثمّ جاءت الهموم الماليّة والصحّيّة التي قادته، بعد مصر وتركيا، إلى أثينا وقبرص، قبل أن تعيده نهائيّاً إلى بيروت.
يمثّل برّاج الفشل، ليس في طريقة مقاربة الفنّ أو الحياة، بل في محاولة فكفكة تشابك التعقيد الثقافي الذي كانت تتعايش فيه عدّة عوالم وأنماط عيش وثقافات، والذي تَصَوَّر برّاج أن في استطاعته أن يحزّ عقدته بالبراءة، وبالسذاجة المفترَضة، وبالطموح العنيد، وبالمهارة التقنيّة. لكنّه تخبّط فيه، ربّما لأنّه، بكلّ بساطة، لم يكن على تماسّ كافٍ مع التقاليد الأكاديميّة أو مع «مدرسة الفنون الجميلة»، وربّما كي يتمكّن في النهاية من الوقوف في وجه الأكاديميّة.
هل ترك برّاج وراءه فنّاً «غير مكتمل»؟ ليس السؤال ذا أهمّيّة. الأحرى أن يجري الكلام على فنّ وَضَعَ المعالم، على مدى ثمانية أعوام، بين 1968 و1976، لتطوّر يَعِد بإمكانيّة وجود رسم لبناني واقعُه واقع هذا البلد، مأخوذاً خارج الفولكلور التصويري. فنّ كان ينضمّ إلى طرح مسألة هويّة لبنانيّة تخصّ الفن، ويبيّن تشابك تراكبها وتوالفها، والهشاشة التي أوقعت الفنان فيها، في توازن التبادل، عندما توقّف كلّ شيء دفعة واحدة. هذه المرّة، على العكس ممّا يقع عادةً، كان أنّ الواقع تخلّى عن الفنان.
كان برّاج تلميذاً لكيمياء ﭘﻮل كليه، من المجموعة المتشكّلة آنذاك من هايدي شيتشيني Haidi Chichini، وإدوارد نييرمانس Edouard Niermans، وغيرهم.
كانت كيمياء كليه كيمياء شعريّة، لكنّها كانت كذلك مختبراً للالوان والموادّ. كانت العالَم الذهني لماركة سنّلييه Sennelier لصناعة مواد التلوين. كانت لهم نوعاً من مغارة علي بابا لونيّة.
ونظراً إلى هشاشته وجِدّيّته وشعوره بالذنب رأى أن من الضروري أن يضحّي تكفيراً عن كلّ ذلك معاً. وهكذا انقلب على نفسه موجِّهاً الحرّيّة السعيدة نحو الدراما وسعى بإصرار إلى أن يكون الأكثر شقاءً بين البشر.
هذا الإصرار على الشقاء هو عمل بدوام كامل. ولا يعرف القائمون به بديلاً منه يعملونه، لذا يمضون نحو الكارثة مُجمِعين على الشكوى بالصوت العالي، [كما لو أنّ كُلّاً منهم على حدة] خائف من تحوّله إلى هدف أعمى ومضمون. كان لابدّ من خلق أعمال تصبح، مع التفارق الزمني أو الشكلي، كما عن غير اقتناع، غير مُبرَّرة ومُوحَّدة إلّا بإرادة الخلق هذه.
سينتقل برّاج للاقامة في منطقة الروشة في بيروت، في شقّة من غرفتين استأجرها شقيقه سنة 1976، مع اشتداد المعارك والاضطرار إلى إخلاء شقّة باب ادريس. كان مخيِّماً في تشكّل استيهامي، حائراً بين ألواح تشريحيّة، عبارة عن خليط من علم التشريح والعلوم الطبيعيّة، وإخراج مشهدي لهذه الاستيهامات نفسها، وفي ظنّه أنّه أعاد اكتشاف «شعب» المدينة القديمة.
وهو كأحد أبناء حيّ المتحف أصلاً لم يكن قد عرف ذلك القسم من بيروت، في بداية الستّينيّات، أيّام ذلك المقهى الواقع في ساحة الشهداء، L’as de Pique، «أسّ البستوني»، مع ديكور بريشة ﭘﻮل غيراغوسيان.
طريقة أفراد ذلك «الشعب» في كونهم دائماً شخصاً آخَر، وجانب تدمير اللعبة الاجتماعيّة في هذا المجتمع، للالتحاق بهذا الآخَر.
كان هذا أيضاً في تعريف ذلك العالَم الآخَر. لم يكن يعرف إلامَ يريد التوصّل ولا كان يتوصّل حتّى إلى تعريفٍ لوسائل الشروع بهذا التوصّل.
ذلك الاقليم الخيالي الذي ينتمي برّاج إليه هو البلد الخلفي الانكليزي، أي أنّه إقليم من إسقاط رومنطيقيّة تفارقت مع زمنها ودخلت في انحطاطها، وأخذت على عاتقها كافّة الدواعي إلى التكيّف. إنّه إقليم إنكليزي يتشكّل من حياة في الريف ومن إسقاط بين الملحق الأدبي للتايم (TLS)، وفكرة أن يكون فنّاناً في باريس ثمّ في بيروت.
استطاع برّاج أن يعيش الفنّ كتساؤل مصطنع، لكونه مستفَزّاً. لكنّه حمّله من طيب النيّة ما جعل السؤال المطروح لا يفضي إلّا إلى إجابات متأخّرة.
كان ذلك زمناً ضرورياً لتَمَثُّل المؤثّرات وللعبور إلى العالَم الواقعي، ذلك الذي كان ينبغي أن يُعطى الوقتَ للسقوط كي يُرتجى الخلاص.

فادي برّاج

فادي برّاج إلى اليمين، مدرسة برمانا، دون تاريخ

فادي برّاج، أثينا، 1985

فادي برّاج