
فريد عواد، مترو، دون تاريخ

فريد عواد، مترو، دون تاريخ

دون تاريخ، فريد عواد، دون عنوان

فريد عواد، مترو، دون تاريخ
عوّاد، فريد
ميدان (لبنان)، 1924- باريس، 1982
لعبت ساحة الشهداء في بيروت، بالنسبة إلى فريد عوّاد، دوراً أسطوريّاً تأسيسيّاً. فقد احتلّ في هذا المكان المؤاتي لمراقبة مشهد العالَم، منذ طفولته، غرفة في النزل الذي تديره والدته، في أوّل شارع غورو Gouraud. وظلّ متعلّقاً طيلة حياته بهذه الجغرافيا الانسانيّة، بحيث إنّه لدى استقراره في باريس حاول أن يلجأ إلى أمكنة مشابهة لتفعيل عمله الفنّي، بنوع من التعلّق العاطفي.
قد يكون من المبالغة في التبسيط هذا الاستناد إلى سيرة اختار الفنان أن يحجبها لأسباب عدّة. فقد وُلد عوّاد في ميدان، الواقعة في قضاء جزّين في لبنان الجنوبي. كان والده مختار القرية وعطّارها في الوقت نفسه. ثمّ انتقلت الأسرة سنة 1934 إلى بيروت، حيث أدارت بصعوبة نزلاً يتردّد إليه العمّال والعمال المياومون الذين جاؤوا للبحث عن عمل في المدينة.
تابع عوّاد دروسه في كلّيّة الحكمة في الجـمّيزة. مات والده بحمّى التيفوئيد سنة 1938. وفجأة، في الصفّ الأول الثانوي، عاف التلميذ اللامع الدراسة وأخذ يرسم، سائلاً جاراً له يعمل في رَوْتَشَة الصور الفوتوغرافيّة إعطاءه دروساً في الرسم. تمّ قبوله في الثامنة عشرة من عمره في «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة»، المدرسة الوحيدة في لبنان لتعليم الرسم، التي كان قد أسّسها ألكسي بطرس وقيصر الجميّل. بلوغ مستوى الفنّ في بيروت الاربعينيّات هذه، يستوجب القيام باختيار عن رويّة. كانت النواة الاولى للطلّاب في «الأكاديميّة»، في انفتاح على الحداثة، قد وعت أنّها منخرطة في سياق تاريخي، في حين أنّ اللبنانيّين، آنذاك، كانوا لا يزالون مدافعين عن الرسم التمثيلي، الذي لا يصدر في نظرهم عن ثقافة الصورة بقدر صدوره عن طريقة في الرسم بالامتثال للقواعد المتّبعة وللتشابه مع النموذج. كان يبدو في حينه للرسّامين الشباب في هذه المجموعة أن الامكانيّة الوحيدة للاجابة عن المسألة هي باريس، ليس كوقوف على مسافة جغرافيّة وحَسْب، بل كمكان ذهني يمكّن الرسّام من مساءلة تاريخ الفنّ ويثير لديه الرغبة العارمة بإيجاد مكان له في هذا التاريخ.
أمضى عوّاد سنتين اقتصر عمله فيهما على الرسم، لسبب بسيط هو أنّه كان في أمسّ الحاجة إلى الفلس وأن «الأكاديميّة» كانت توفّر له الورق. من هنا أوّل أثر لديه يتطلّب إيضاح حضور حالة الفقر في تصويره. هذا عائد، ولا شكّ، إلى اتّصال مكان اسطوري، ساحة الشهداء، بنمط عيش، إلّا أنّ المسألة، بالنسبة إلى عوّاد، كانت مطروحة على نحو مختلف، ليس لأنّ تصوير الفقر لا يكتسب جاذبيّة الغرابة إلّا بالنسبة إلى الآخرين وحسب، بل كذلك لأنّ منزلق التصوير هذا كان جانباً من علاقته بالواقع. الواقع لا بدلالته الانسانيّة، على مستوى العواطف والافكار، بل الواقع التشكيلي، واقع الأشكال والألوان. فالأشكال لديه ملتقَطة خطفاً، إذ إنّه يمضي إلى اللون لينساه فور التمكّن منه.
لم يأخذ عوّاد عن جورج سِير Cyr، الذي لم يكن معلِّماً في «الأكاديميّة»، سوى ضرورة التصوير، ومقاربة تصوير ذي «مسحة باريسيّة»، مأخوذ اقتناصاً، الأمر الذي لقي تشجيعاً من الجميّل، على الأرجح لما أحيى لديه من ذكريات باريسيّة قبل أيّ سبب آخر. ثمّ إنّ سِير كان يرى في عوّاد رسّاماً تصويريّاً يتميّز بأناقة الرسم وسرعته، وفق تقاليد المدرسة الأكاديميّة فيما خصّ الأناقة والتقيّد بالمصطلَح في الكروكي الباريسي. ليس في هذا تكمن أهمّيّة عوّاد، بل في الطابع الشخصي وفي الفنّ اللذين يتجلّيان في سلسلة من اللوحات تعود إلى أوائل الخمسينيّات، كانعكاسات لحقيقة التجربة ولنظرة إلى الحياة وإلى الفن خارج مفهوم المصطلح كتفنّن.
يطرح عوّاد في الأساس مسألة العلاقة بين الثقافة والفنّ والـمُعاش. وهو بذلك أحد الرسّامين اللبنانيّين النادرين الذين توصّلوا إلى ربط هذا الـمُعاش بآنيّة مجتمع وبالثقافة التصويريّة. وقد مضى، منذ المنطلَق، إلى مواجهة صعوبة الصورة، بخيار مدروس كانت تتوضّح فيه مساءلة الفنّ. واشتقّ لنفسه أسلوباً يأخذ بتذليل الضرورة، كطريقة مبتكَرة على التوّ.
ما الذي جعل فنّاناً مثله يرسم في باريس، من 1948 إلى 1951، وفي بيروت، من 1951 إلى 1954، لوحات يرقى فيها الواقع إلى انفعال سحري وديني معاً؟ بضعة وجوه، طاولات لحّامين، رسوم طبيعة ميّتة، وعلى طاولة رماديّة قصعة برتقاليّة ذات حضور من القوّة بحيث لا يعود الرسم ثمرة تمرين إنّما مجرّد نتاج ذاته؛ ويمثِّل كلُّ هذا، دون أدنى شكّ، ذروة في الفنّ اللبناني يشهد لها معرضا 1951 و1954 في غاليري فريتز غوتهلف في بيروت.
وبالتدريج، أخذ الفنّ يهمّه أكثر من لبنان، عندما اكتشف أن المسافة الأليمة في أخذه الواقع على عاتقه إنّما كانت مسألة أخلاق، وشأناً يتعلّق بنمط حياة وسلوك. ذلك أنّ المهمّ في الأمر هو العيش بلا تورّط في المفاسد ولا في الأكاذيب، وهوذا الموضوع الحقيقي للفنّ. إنّه فنّ لا ينبعث من الانسان وحسب، بل من الممارسة الطبيعيّة للعودة إلى الانفعال الأوّل، إلى الحركة الأولى للرغبة بالرسم، إلى هذه اللحظة حيث الواقع يتفكّك وهو ينبني.
ما من رسم تحدوه هذه الطاقة الداخليّة يمكنه أن يذهب أبعد من ذلك، فقد كان حدّاً في حدّ ذاته. كان يقتضي اختفاء الواقع في اللوحة، إلى حدّ الانطواء التامّ على الذات، في حين أنّ ما أراده عوّاد ربّما كان، على وجه التحديد، العودة إلى الواقع، واستبقاء حوار وتصوير وحضور. والحال ، إنّ النقاء، لديه، غالباً ما يدمّر الواقع، وكلّ إمكانيّة لإقامة علاقة وحوار، نظراً لانعدام المسافة بالنسبة إلى هدف المنطلَق.
هناك في بعض اللوحات الكبرى التي تمثّل مَشاهد المترو يقع الموضوع على مسافة يأخذها بمجرَّد حضوره. وفي اللحظة عينها تستمد اللوحة قوة عيش بنبض «الانتماء إلى الرسم» ليس إلّا. فيُنسى الموضوع كي يُرى بوضوح ما يخصّ الرسًام: لمسة، وطريقة في الاحاطة بالألوان، وتوزيع الأشكال. واجه عوّاد الحوار الداخلي بين الفنّ والحياة، حيث يكون في استطاعة اليأس من الحياة اللعب على اليأس من أن يرسم. كانت باريس بالنسبة إليه التمرين الأخير على هذه المجابهة، مع ما أتاحته له، على أيّ حال، من التوسّع في المجال التصويري والتجربة والصلات الثقافيّة.
كذلك كانت باريس ضروريّة له لينجو بنفسه من هذه الكذبة الداخليّة التي كانتها بيروت بالنسبة إليه، ربّما نظراً إلى الدراما العائليّة التي مزّقت حياته. فهو كان يلحظ في المجتمع البيروتي ما يشبه طلب شهادة حسن نوايا، كما لو أنّ هذا المجتمع كان يحيطه بإشفاق متكلَّف على وضعه الراقي في بؤسه، على غرار برجوازيّة كانت تُعلِّق نسخات من لوحة الطفل المتسوّل للفنّان الإﺳﭙﺎني موريللو Murillo في قاعة الطعام.
كان عوّاد غالباً ما يلتقي عبّود في باريس. ولجأ في التعبير عن نفسه إلى لغة تصويريّة سبق أن تكوّنت مفرداتها في بيروت. ولم يعِ هذا التباين إلّا متأخّراً؛ كان المهمّ بالنسبة إليه يتجاوز اللوحة. لكنّه كان معرَّضاً، نتيجة قراءة سطحيّة، إلى أن يُصنَّف كرسّام سياحي للمدينة التي يعيش فيها ويرسم منها المترو والمقاهي. لا يمكن أن نجعل من المترو رمزاً لعالَم غامض ورهيب، فالفرق هنا ليس في التعبير بل في المؤدّى. كان عوّاد يسعى إلى قول ما يتجاوز المترو والحياة الباريسيّة. لكن هذه الحياة الباريسيّة تبدو مع ذلك، حتّى على المستوى الأكثر تواضعاً، ردّاً على الفولكلور الباريسي في المتاح لمراقب اجنبي أن يدركه منه. من يَعِشْ في باريس يَنْتَهِ إلى نسيان المترو، خاصّة إذا كان يستقلّه كلّ يوم. أمّا عوّاد، فيترك الانطباع بأنّه يغادر باريس إلى باريس أخرى تخصّه شخصيّاً وتنطوي على المقاهي والمترو كجزء يدخل في تكوينها. يصعب الايغال أبعد منه في الحميميّة المتناقضة بين جموع الناس، طريقته المختلفة في ألّا يكون مفهوماً. كم مِن مرّة جاءه مَن يشاجره في المقاهي الباريسيّة حيث كان ينزوي للرسم؟ كذلك كان في بيروت ذلك المراقِب المتنبّه، يجول ملتقطاً المشهد خطفاً، بحيث حُسِبَ أحياناً مخبراً للبوليس وتعرّض للتهديد في حياته.
لم تكن سمة عدم اكتماله الأليمة مرتبطة برسمه بل بشخصيّته؛ أن يجد نفسه أمام العالَم، عاجزاً عن إرجاء المواجهة، وفي الوقت نفسه لا حول له ولا قوّة إزاء الأمر. نوع من التباطؤ، حيث يُلقى بالحياة بعيداً إذ يُرى إليها برهبة وانبهار؛ فهي فاقدة الدلالة لكنّها مقتصرة على صورة لم تَعُد تقول شيئاً، على صورة حاضرة بعناد، صامتة، ساكنة.
إذا كانت ساحة الشهداء لم تُتَّخَذ أبداً موضوع رسم، فباريس كانت مدينة تُرسَم منذ قرون. فماذا كان في وسع عوّاد أن يضيف إذاً؟ بالفعل، كان اختيار باريس، بالنسبة إليه، حصالة فكرة تكوّنت مسبّقاً على الصعيد الاخلاقي، تتعلّق برغبته في عيش حقيقته كفنّان. وجاء فشله الذريع نتيجة، لا لهذا الاختيار، بل لواقع كونه قد جابه مسألة حقيقته في هذا القسم من باريس المرئيّة التي باتت بمثابة نقلة لساحة الشهداء. لم يكن في الامكان الذهاب أبعد من ذلك. كان يتوجّب أن يترك المسألة الاخلاقيّة جانباً لينطلق فيما لا يمسّه حقّاً: «الموضة الباريسيّة». وبذا يكون معرَّضاً لاعتباره رسّام الحانات الباريسيّة، أو الفولكلور، بدلاً من نبض الحياة.
فكيف اشتغل منذ أن قرّر الاستقرار في باريس، سنة 1959؟ باستثناء المعرض الذي أقامه فريتز غوتهِلف لدى ريموند كازناڤ Raymonde Cazenave سنة 1964، لا يكون قد عرض سوى لوحة واحدة في صالة «حقائق جديدة» (Salon des Réalités nouvelles)، هي لوحة تعود إلى مرحلته التجريديّة التي لم تدم أكثر من سنتين. فهو، بالفعل، لم يكن يجد في الرسم التجريدي الصدى الكافي؛ ولم يكن ليكتفي بمجرّد الاستمتاع بلعبة الألوان والأشكال. ومع استمراره بالرسم في باريس، عرض في لبنان، في «دار الفنّ» 1968 و1971، ثمّ في ألمانيا، 1972 و1978. هذا لا يعني أنّه أنتج «سِلَعاً من باريس» مكرّسة لبيروت أو لألمانيا.
كان فهمه لباريس يلعب على سوء تفاهم. فهو لم يكن يرى فيها مصدراً لإضفاء الشاعريّة – مثل معظم الرسّامين اللبنانيّين الذين تستفزّ هذه المدينةُ نرجسيّتَهم – بقدر ما كانت مكاناً يستطيع فيه أن يرسم، مكاناً يجعل الرسم ممكناً. كان لبنان، بالنسبة إليه، يغدق الاغراءات، بين شمس وثرثرة، حدّ الإغراق. هل كان يعي حقّاً ما يرتّبه عليه كونه فنّاناً لبنانيّاً يعيش في باريس ويرسم مشاهد الحانات أو محطّات المترو أو المرفأ البروتاني حيث كان يمضي عطلاته؟
لم يكن جوابه عن ذلك أن يشتغل فولكلوراً لبنانيّاً لباريس، بل رسماً يحمل سمة الرسّام الشخصيّة. كما أنّ عوّاد، في أفضل ما رسم، لم يكن لبنانيّاً يرسم باريس. كان لا يتكلّم على باريس بل على إمكانيّة أن يرسم ليس مكاناً آخر، بل ما يجده أمامه: هذا المقهى وهؤلاء المارّة. هكذا تكون الحياة اليوميّة مرتبطة مباشرة بالرسم وليس باصطلاح ترميز أدبي أو بلاغة مُعاش. لحظة من الحياة تمضي في الفعل الذي يسعى إلى استعادتها، ويصبح النظر تملّكاً.
المثير للاستغراب، عندما انفصل عن مواضيعه الأثيرة، من مقاهٍ وجموع ومترو، كان الفنً آخذاً بدخولها، لوناً بلا مؤدّى، واشتغالاً على لوحة باتت متخلِّصة من خلفيّة ذائقة سليمة منسوبة إلى المجتمع اللبناني. كان معظم الرسّامين اللبنانيّين من جيله، المقيمين في باريس، يلجأون إلى اللاتصوير كي يجدوا في الرسم شيئاً ما قد يمكّنهم من المطالبة بحقّهم في ملكيّته. أمّا عوّاد، فكان، بين أفراد جيله، قد اختتم العلاقات الممكنة مع باريس، هذه العلاقات التي ليس تدامج الثقافة الثنائيّة فيها قابلاً أن يُطرح باستسهال تعداد العناصر المكوِّنة، بل بمعاناة مصاعب الانفصام، ومصاعب ازدواج أليم بين التعبير عن الذات والتفاعل مع الوسط.
كان العيش في باريس، بالنسبة إلى فنّان لبناني، يستتبع الانتقال بين الحين والحين إلى لبنان والعرض فيه، وكسب بعض المال كي يتمكّن من مواصلة الاقامة في باريس. فالمسائل الاقتصاديّة غيّرت المعطيات ولم يَعُد لبنانيّو باريس سوى صدى بعيد لمجتمع لبناني لم يجد في باريس انسجامه، ولا قدراته على الانفتاح والاستقبال والتبادل. والمجتمع المصغّر الراهن يواجه تحدّي هويّة ضائعة بتكوّم بسيط. لقد تغيّرت المشكليّة ولم يعد الفنانون بقادرين على الاختيار بين باريس وبيروت إلّا من خلال طرح إمكانيّات العمل داخل ثقافة.
كان عوّاد قد اختار باريس على أنّها المكان المثالي ومكان المثل العليا كافّة، ومتعة السير في الشارع، وارتياد المقاهي، وزيارة اللوﭬﺮ. إنّه لموقف جيّد خصوصاً لفترة سنوات الدراسة: موقف الطالب الذي يكتشف حرّيّته بالنسبة إلى بيروت. بقي عليه أن يكتشف حرّيّته بالنسبة إلى باريس. كان يجد في لبنان سهولة عيش نسبيّة، على مسافة من الأشياء مستبقاة بالألم أو بالاستسلام – لا نعرف تماماً – نمط حياة. وكمتسكّع طيّب القلب، كان يأخذ الأمور كافّة، الفنّ كما العالَم، بمعناها الأكثر حَرْفيّة. وعاش في باريس في عزلة جذريّة، ولم يشعر أحد أكثر منه بكلّ الآلام المبرّحة التي أنزلها العالَم به، على أنّها ملامات شخصيّة.
كان بحاجة إلى الخروج من ضيقه بواسطة الموضوع، ومن قلقه بواسطة العمل التصويري. وعملت هذه الموضعة، كذلك، بالنسبة إلى شخصه بالذات. كان يستمدّ قوّة فنّه من الواقع الحقيقي، من تمثيل الواقع، طريقته هذه في وضع انفعالاته في المقدَّمة، في الالتصاق بحياته الشخصيّة، دون التوقّف عند الاشياء التي سبق أن قيلت. كانت الاشياء بالنسبة إليه بسيطة وشفّافة: مجرّد حركة الرسم، العمل، حياة عامل، إصرار عنيد على التكرار يفترسه تشكيل المواضيع المعالَجة. كان عليه أن يشتغل في المسافة والذكرى معاً، وأن يحدِّد لنفسه أسلوباً ما بين الحنين إلى لبنان الصوَر واتّخاذ مسافة من تاريخ لفنّ لم يبذل أيّ جهد في احتلال مكان فيه، رافضاً أن يفهم أنّ هذا التاريخ كان تاريخه، وأنّ من المهمّ أن يذهب إليه.
كان ينظر ولا يتقدّم، لأنّه لم يكن ينظر إلى فنّه. وهو لم يفهم إلّا متأخّراً أنّ الفنّ هذا لم يكن ما كان يبحث عنه في عدد من الحقائق التصويريّة التي من شأنه أن يؤدّيها، ولا في أسلوب يوضع في منظور مزدوج من تعليم «الأكاديميّة...» ومن المُحفِّز الباريسي ممثّلاً بجورج سِير. كان مفرطاً في التواضع أمام فنّ الرسم، وتأخر في فهم أنّه كان عليه أخذ هذا الفنّ بشيءٍ من القسوة، كما تؤخذ الحياة نفسها. ليس، بالطبع، أنّه كان عليه أن يسيء معاملته، بل أن يعامله، أحياناً، بلا مراعاة.
الاقتصار في المجابهة على فنّ المتاحف وحده، يعني الدخول في حوار جوهري، لكنّه يعني كذلك ممارسة مواجهة جامدة وصامتة، حيث لا أحد يجيبك ويكشف لك إنسانيّته، أو ضعفه، أو أريحيّته، أو صَغاره، ولا يعرِّفك بفرصة السعادة وبخطر الخيبة اللذين يرافقان كلّ علاقة إنسانيّة.
بحركة متناقضة لم يغب عنها الحنين أبداً – للنجاة من اجتياح حضور بيروت لدى كلّ رسّام لبنانيّ في باريس –، عرف عوّاد جيّداً المسألة الثقافيّة المتعلّقة بإقامة المسافة. بتَقبُّلِ اللوحة كشيء منفصل مادّيّاً عن الذات وتَقبُّل الموضوع والمرئي كمنفصلين عن الذات. هكذا يبدو أنّه كان يتقصّد ترك انطباع بانّه كان عليه البقاء في بيروت بدل أن يذهب ليضيع في باريس.
كيف كان يمكن أن يتطوّر لو أنّه بقي في بيروت؟ نقاش لا طائل فيه، بحيث إنّ قسوة براءة عوّاد وحدها كافية لجعل أعمال معظم رسّامي جيله اللبنانيّين نتاجاً عفا عليه الزمن. لكن لم يكن أمام هذه البراءة إلّا أن تؤول إلى النفاد وأن تقوده، إن لم يكن إلى الوقوع نهائيّاً في شذوذ التلصّص، فأقلّه في العجز التامّ عن التواصل. فقد اصطدم بالتالي بفشل ذريع – وهذا ليس على سبيل إطلاق أحكام قيمة. ليس هذا الفشل فشلاً لفنّه، وليس فضلاً عن ذلك فشلاً لحياته. إنّه قائم في تداخل الفشلين. ليس في واقع كونه لم يتمكّن من تحقيق طموحه أو تلبية متطلّباته، بل في فشل تاريخي للتعبير. ليس في الوارد، لدى الكلام على رسّامين آخرين، الخلوص إلى تقرير الشيء نفسه، وذلك لسبب في منتهى البساطة: يتعلّق الأمر هنا بمسألة لم يلتفتوا إليها ولو لماماً.
كان هذا الفشل محتّماً. وهو غير التباين التاريخي في الفنّ – ما يخصّ باريس منه بالنسبة إلى الخاصّ ببيروت وما يخصّ بيروت بالنسبة إلى الخاصّ ببيروت. هل سعى الرسّام إلى فشله هذا كقيمة؟ لا نظنّ ذلك، لكنّه دافع عنه لكونه لا يملك خيارات أخرى. لم يكن يجد في نفسه إلّا حياءً أساسيّاً، وتردُّداً إزاء الوجود يُلزِمه بعدم الاكتمال.
كان عوّاد يعيش وضعه الخاصّ بتركيز ربّما بالَغَ فيه بحيث بات لا يعي ما ينطوي عليه من بُعدٍ مأساوي كان سيهلكه لو أتاه بالاعتدال. هذا لم يَحُل دون أن يعيش الحياة كفعل عليه أن يواصله بملء إرادته في العزلة والبأساء والحيرة ممّا لا مفرّ منه إن كان يريد أن يواصل الرسم. كان قد توقّف عن مقارعة اللون، خلف باب المرسم، ولم يَعُد في وسعه أن يطرد الظلال والاضطرابات والغوامض التي لا تفسير لها. كان العالّم يبدو له دون فرح ممكن، مجرَّداً من سعادة الرسم. كان يصارع الأشكال التي عليه أن يغادرها، في حين أنّ أشكال هذا العالَم لم تَعُد تعني له شيئاً، ذلك أنّ تلك التي كان يعرفها عبر الرسم بالألوان لم تَعُد في متناوله وتلك التي كان يتناولها كانت مجمّدة في التعارض الوحيد بين الأسود والأبيض. كما لو أنّ غلالة غطّت كلّ شيء وتوجّب إطفاء هذه الشمس السوداء لاستعادة شكل يمكن تَعَرُّفُه من ذكرى أخيرة. ليست لوحاته الأخيرة إلّا عبارة عن تَوجُّع وبؤس فيما يتجاوز حتّى الإعياء وخيبة الظنّ. إنها تُنكِر الفنّ تاريخاً واستمراريّة، وتُسجِّل، بلا مراعاة، رفضاً للرسم من أجل الأحياء، وتَعَمُّدَ هذا الرفض من أجل شعب أموات، هُم، في نظره، الباقون على قيد الحياة.
كان عليه أن يعيش وأن يعيش على اللوحة تكراراً الذاتَ الذي كان يؤول إليه فيتحوّل إلى موضوع لهذه اللوحة. كان يَتَعمَّد تعريض نفسه للعطب. لم يكن في مقدوره أن يستجيب للهويّة التصويريّة إلّا بالتكرار والتحوّل الانفعالي من بيروت إلى باريس، في مساءلة للأنا يعجز عن التخفيف منها. أراد على نحو ما العبور من مأساويّة داخليّة تُعبِّر عنها كلُّ أشكال العالَم عبر اللون، إلى عالَم خارجيّ حيث تبدو الحرّيّة علاوة بلا مقابل، إذ تكون الاشكال والالوان مبذولة بيسر.
كان يبدو أنّ جنوحه في العزلة يجعل كلَّ شيء ينقلب إلى الدراما؛ فبقدر ما كان يتفعّل دور الرغبة في تحقّق الهويّة، وبقدر ما كان يظهر متخلّياً عن هويّته، كان زخم انفعاله الأوّل يزداد فتوراً؛ ولا يتبقّى أثر منه إلّا في ضربة الريشة، عمل الرسم نفسه. لم تُسفِر مرحلته التجريديّة – يتبدّى الأمر بصورة صادمة – إلّا عن أزمة الواقع الحقيقي. استلزم الأمر استقطاع وتأطير الاجزاء الناجزة من لوحات لم يكن قادراً على إنجازها. لكن قد يكون من الظلم أن يؤخذ عليه كونه لم ينضوِ في تيّار التجريد. كان مشغوفاً بكاندِنْسكي Kandinsky وﭘﻮللوك Pollock ويقيم على اقتناع راسخ بأنّ العمل الفنّي إطلاقاً لا بدّ له من إنسان يسنده.
يتولّد أحياناً شعور بأنّ عوّاد لم يتمكّن من استثمار استقلاله الذاتي لأسباب عديدة – مرسم ضئيل الاتّساع، أو لوحات صغيرة المساحة، أو تنكيد البؤس. الرجل الذي كان يعاني من نوبات سعال ويبصق دماً في مرسمه الواقع في شارع ده إه rue des Haies لم يكن شخصاً تلاحقه اللعنة. لكنّه كان يرسم ذكرى عالَم لم يَعُد للون فيه وجود، مثل ضريرٍ يترنّح في الحُلكة.
اكتمل مع عوّاد، بالنسبة إلى فنّ الرسم اللبناني، الزمن الذي كان الفنّان فيه قادراً على أن يرسم في البراءة وأن يحسب نفسه منعتقاً من العالَم بواسطة اللون. وقد سجّل كذلك نهاية إمكانيّة القراءة الرمنطيقيّة لفنّ الرسم هذا. كان عوّاد يدشّن بذلك، بالنسبة إلى جيله، كلّ احتمالات النجاح، ويرسّم حدود الفشل في الحوار مع باريس، في مواجهة الفخّ الذي تنصبه مدينة حريصة على المظاهر إلى حدّ نسيان ما هو جوهري. أمّا هو، تحديداً، فكان يريد الذهاب إلى الجوهري معوِّلاً على المظاهر. وعندما أدرك أنّ فنّ الرسم لا مرجعيّة له إلّا فنّ الرسم، كان قد أدركه المرض، ولم تَعُد قواه المتناقصة تمكِّنه إلّا من فهم أمر واحد: ليس لأشكال العالَم الأكثر انغلاقاً أن تكون مفهومة. الرسم: إنْ هو الصراع القديم مع مرور الوقت ليتعلّم المرء أن يشيخ.
إنّ جزءاً من دراما الرسم يتعلّق بالتباعد بين الوسائل المستعملة والأشكال المقدَّمة لهذه الوسائل. وقد أضاف عوّاد إلى هذه المشكليّة نضارة نظرة إلى العالَم وبؤسها، مع وعي منه بأنّه قد لا يجد جواباً عن كلّ ما كان يجعله هشّاً. لذا، ما كان لفنّه إلّا أن يكون انعكاساً، لكلّ شيء، في المرآة، مجرّداً من وهم تجاوزه إلى ما وراء ما يُظهِر. لم يكن قد تبقّى له إلّا استقلاليّته، ورغبته في الحفاظ عليها والرسم على مقربة من هذا التطلّب، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. كان في حاجة ماسّة إلى قول كلّ شيء دفعة واحدة، في قلق مطلق. كان يعرف أنّه محاصَر ومريض. وإذا كان بوضعه وبثقافته منقاداً إلى صُوَر اصطلاحيّة، فهذا لا يقلّل، مع الوقت، من ظهوره كمن سبق له أن أستكشف كامل المجال التصويري اللبناني في الخمسينيّات. ومع افتقاده الوسائل لتدمير ما كان يُنسب إليه من نوع من السذاجة، استمرّ وحيداً بعناد في مواجهة عالَم يجرِّحه. لكن لو كانت هذه الوسائل قد توفّرت له، لو استطاع أن يفهم، فهل كان سيقدِّر ما كان سيترتّب على فهمه من عواقب؟ ينظر الطفل إلى العالَم بعناد. والرجل حامل هذا الطفل في ذاته يواصل النظر إليه كما في اليوم الأوّل، مدركاً أنّ العالَم ينطوي على دلالة وأنّ عنف هذه الأخيرة يذهب بعيداً في تخطّي ما هو قابل للفهم. كان ذلك انفعالاً معترَفاً به وجارفاً قاده إلى حافّة التوحّد. فالفنّان، الكامن فيه، يجد نفسه، والحالة هذه، في مواجهة الصوغ المستحيل للصورة المحظورة، الصورة التي تمثّل الرعب وتكرار الذكرى. إنّها صورة يتعذّر رسمها ليس بفعل حظر اجتماعي يُثقِل عليها، بل نظراً إلى عقدة انفعاليّة وعاطفيّة. يوجد هنا قَطْع في الرسم لا يُطلب تفسيره من التحليل النفسي إذ إنّه يتّصل بالعلاقة مع الصورة، حيث ترتبط الحقيقة بالرعب. وشأن الرسّام في ذلك، شأن شاهد بريء على جريمة قتل، أنّه مذنب كشريك في النظر. هذا ما كان يجعل عوّاد غير قادر على الاستمرار في التواصل مع العالَم إلّا عبر الصورة، لكنّه كان غير قادر على مشاركة الآخرين صُوَرَهم: متضامناً ومستلَباً في الوقت نفسه.
لم يعرف عوّاد الغشّ أبداً، ولم يتنازل أبداً عن براءته العمياء والمستقِلّة. وهذا ما يجعل منه فناناً وأحد النادرين الجديرين بهذه الصفة التي ربّما تكون الأكثر انطواء على الاسرار والأكثر ثراء، وإن يكن قد عرف ذلك البؤس الذي كان دكوننغ De Kooning يقول عنه إنّ المشكلة معه تكمن في أنّه يأخذ منك كلّ وقتك.
رسّام هو على الرغم من الهفوات والمراوحات والضلالات، وعلى الرغم من سذاجة الاشكال وهي غير سذاجة التعبير عن الاشكال. الشغّيل لنفسه، لم ينتم أبداً إلى تيّار ثقافي ما. كان يخرج صباحاً إلى مرسمه في شارع ده إه des Haies ويعود مساء إلى شارع مونه ـ سوللي Mounet - Sully. كان يمتنع في آخر حياته – توفّي سنة 1982 – عن فتح باب مرسمه لزائريه. عاش إنساناً حُرّاً سيّداً يُظهِر، بالمثال الذي كانه وبتطلّبه التزام الحقيقة، جانباً كاملاً من فنّ الرسم اللبناني بمثابة كذبة أليمة.
ينبغي ألّا يغيب عن البال أنّ الثنائي عبّود ـ عوّاد يحضر في المشهد الباريسي مثارَ تنافس وإعجاب. إلى أن ترك عبّود أخاه وموضِعَ إعجابه يتدمّر ويتحيّد خارج كلّ سياق اجتماعي.
كلاهما كانا مستبعَدين ومهمّشين. كان عبّود، بهذا القطع مع الرسم التصويري، قد سلك في الطريق الأطول، مغرِقاً في معجون الرسم التجريدي، ظنّاً منه أنّه بذلك يلتحق بالأوساط الطليعيّة في الخمسينيّات.
كان عبّود يُبحِر ضمن المجال المنظور، بينما كان عوّاد يُشهِر نوعاً من العناد، خاصّة وأنّه لم يكن محيَّداً عن مجال النظر إلّا لأنّه كان يستطيع أن يسمح لنفسه بذلك، في صدى الاعجاب الذي حظي به من جانب غوتهلف الذي كان يعيش في باريس آنذاك.
كان لا بدّ لعبّود من جعل غوتهلف يكسر سارية شراع عوّاد. ولم يجد في ذلك صعوبة غير قابلة للتذليل، نظراً إلى رعونة عوّاد وانغلاق الآفاق المدوِّخ لكن الحقيقي متمثِّلاً في مجموعة اللوحات البيضاء، حيث كان من شأن عشرين سنتمتراً من التجريد أن تُفشِل كلّ محاولة للمضي قُدُماً في بناء اللوحة.
كان عوّاد قد أخذ يفتقد موطئاً ثابتاً لقَدميه ويقع مجدّداً في عوز متواتر حيث لم يكن الدعم الذي يأتيه من ج. وردة إلّا دعماً ماليّاً، في حين أنّ ما احتاج إليه فوق ذلك كان التجاوب والعلاقة الشخصيّة، ترتيب البنية الفكريّة. كذلك كان كلّ شيء من حوله يتفكّك نتيجة تفاهة الذين كان يلتقيهم.
ليس عوّاد لوترك Lautrec، ليُثمَّن، على الرغم من كلّ الرومنطيقيّة الباريسيّة الممكنة، حَسَب التعريف بنفسه عبر سيرته الذاتيّة وكفى. فقد صار أكثر فأكثر عرضة للوقوع في نزوع إلى إشهار هويّة باريسيّة تعتدّ ببؤسها أو بمرجعيّتها التصويريّة التي لا تنتسب إلى بوفّيه Buffet ولا إلى غروبر Gruber بل إلى الصدى البعيد العائد إلى خِفَّة جورج سِير.
لم يكن قوام هذه الخفّة، الآتية هنا من سِير، إلّا المؤدّى اللطيف واللون المائي. ما من فائدة كانت ترتجى من محاولة المضي قُدُماً في التنقيب عمّا لم يكن إلّا المسّ المائي لسطح الواقع الحقيقي. وزاد الانكسار إيلاماً نتيجة انقلاب موقف عبّود ارتباطاً بوَسَطه الاجتماعي. كان لدى عوّاد انطباع ليس بأنّ مُشاهده الوحيد انقلب ضدّه وحسْب، بل ودخل معه في مزاحمة مباشرة.
الأرثوذكسي من المحيدثة انقلب ضدّ الماروني من جزّين، بوعي وضعه كرسّام والعمل على تحسين هذا الوضع. فقد قطع عبّود الطريق أمام وضع الفنّان الملعون متنقِّلاً بلا هوادة يطرق أبواب عقليّات غاليريات العرض. بل أكثر من هذا، كان آنذاك في صدد الارتقاء إلى وضع مقبول حسب المعايير السائدة من جعالات شهريّة تقدّمها صالة العرض، وإنتاج منتظم، وزواج، وشراء سيّارة.
كان ذلك جديداً على الفنّ اللبناني وآفاق تطوّره. فالمعايير الاجتماعيّة للنجاح باتت تستوعب بالكامل تاريخ الفنّ اللبناني، لا كمحاولة تطبيع يائسة، بل كضمانة حتّى للاندماج الاجتماعي.
كان كلّ هذا يَحِلّ في وقت كان كلّ شيء بالنسبة إلى عوّاد يبتعد إلى غير رجعة، محمولاً في الوقت نفسه على الجنوح الاجتماعي ورفض هذا الجنوح. ناهيك عن أنّ فنّ عوّاد كان لااجتماعيّاً على الرغم من كلّ تنويعاته على الجموع وتمثيلاته للمترو، والمقاهي، والبارات، ومَشاهد الشارع.
كان يبدو أنّه لا يصوّر الناس إلّا لكي يمعن في الابتعاد عنهم وحتّى، في الحدّ الأقصى، لم يكن ذلك إلّا لكي يستبعد كلّ إمكانيّة للاجتماع، على أيّ مستوى، مع غيره من البشر.
ما فهمه من باريس لم يكن بالتالي سوى المترو والمقهى والبار ومشهد الشارع، وكلّ هذا عن شذوذ تلصّص عابر، تراكم جموع ولا أفراد.
لم يواصل عوّاد الرسم إلّا معاندةً بالرسم، دون أن يوفِّر لنفسه من وسائل للتفكير، إلّا تلك التي تردّ على قسوة الواقع حيث يحتكر الفقر أقوى الادوار.
دون الذهاب حتّى الماورائيّات، كانت عاديّة الرجل تنساق ببطء إلى الانحباس في سجن واقعي أكثر منه خيالي. الطريق المسدود إن هو انتهاء صلاحيّة الواقع.
الغرق في هذا اليأس حيث بات الواقع لا يرسل إليك أيّة إشارة، وبات يتعذّر حتّى الجواب عليها، إلى حدّ ذوبان التصوير نفسه في سهولة المؤدّى الذي يستحيل طريقة مكرّرة.
لقد انتقلنا من أمل الشِعر إلى اجترار غريب للتفاهة وللعادي البصري. يمكن أن يكون المرء شاعراً في حياته، مثل نفّاع أو عوّاد، لكنّه ينتقل إلى مستوى آخر ما إن تتوقّف وسائل التعبير عن خدمة هذه الامكانيّة.
تكشف الاستراتيجيتان المتعاكستان المتّبعتان لدى عبّود وعوّاد في مجالَي الرسم والمجتمع عن موقفين وعن نمط العلاقة مع باريس في تاريخ الرسّامِين اللبنانيِّين.
وتظهر بنظرة واحدة المسافة الهائلة بين العقليّة الريفيّة والنزوع إلى المحاباة لدى فنانينا اللبنانيّين ذوي الأصول الجبليّة، الذين كانوا يعتبرون أنّ الخيار الوحيد البديل عن بيروت هو باريس وليس الرسم.
وسيعيش عوّاد هذا الفشل الذريع حيث يصبح المترو هو الأكيرون Achéron، حسب الميثولوجيا اليونانيّة، نهر في الجحيم ومعبر الموتى إلى الجحيم وهو الجحيم نفسه. وقد تَعذَّر إدراك هذا الترميز فيما يتعدّى وسيلة النقل. كانت هذه الأخيرة المكان الوحيد الذي يتيح فهم الرمز.
إنّه الطموح إلى فنّ عظيم تشاؤمي وأسود بالمعنى الحَرْفي للكلمة، إلى سواد ذي حُلكة ميؤوس منها ينتقل مباشرة إلى رواية الطُرفة ويتحوّل إلى تَحرُّف مسرحي في إخراج مشهدي يُغرِقه فواتُ وقته في تلك الطُرفة بدل التعبير عن مأساويّته.
بات ذلك لا يعدو كونه تصويراً بالاسود والابيض لوقائع المترو باعتباره وسيلة نقل.
الواقعيّة والحُلكة قتلتا الدراما وثقل الاسوداد المعكوس شأنهما في ذلك شأن فيلم صورة فوتوغرافيّة لا يعطي معادلاً تشكيليّاً لنسخته السلبيّة.
يؤَدّي عوّاد سلسلة لوحات المترو هذه كعمليّة انعكاس فوتوغرافي تشكيليّة وذهنيّة. تكمن المشكلة هنا في أنّ العمليّة لا تعمل لا في الرؤية ولا في التعبير. فحضور المترو وثقله يطغيان كبنية إلى حدّ منع عبور الرمز.
وَهْمُ الرسمة عندما تكون هي اليد التي ترسم اللقطات دون التوقّف عن الالتقاط والرسم، عن أسلبة الشكل وهي ترسمه.
المشكلة الحقيقيّة ليست في أنّه لا يتوقّف أبداً بل في أنّ الخط لا يتخطّى الأسلبة التصويريّة. خطّ تفضي به أناقته إلى أن يصبح شرساً في طريقة عجزه عن التوصّل إلى الانفصال عن منطلقه إذ لا يميّزه من المؤدّى ويسعى بعناد إلى الجمع بين أناقة الشكل ومشهد البراعة في أدائه بلا هوادة.
خطّ يُفقِده بذلك كلّ إمكانيّة للبحث في المضاربة أو في الرسم. فقد يتعيّن التفكير قليلاً في شأن الشيء المنتَج، في شأن العمل المرسوم نفسه. بينما أنكر عبّود عليه حداثة العمل وملاءمته.
جرى ردّ جمال المنطلق، أي الواقع الحقيقي والمرئي، إلى التمثيل، مثلما ينضمّ جناحا فراشة على الفور إلى علبة تقديم مجموعة.
لا نقاش في أنّ الأمر لا يتعلّق برغبة في أن تعود الفراشة إلى الطيران مجدَّداً، لكن ليكن معلوماً أقلّه أنّها سبق لها أن طارت قليلاً في مبتغاها كفراشة.
عَبَرَ عوّاد، الماروني من ميدان، هذه القرية في لبنان الجنوبي، غير البعيدة عن جزّين، من فاقة معنويّة إلى ﭘﺮوليتاريا مدينيّة بانحدارها الطبقي وعنفها اللذين يتميّزان، بالنسبة إليه، بفرادة هي من الترهيب بقدر كونها لا تمتّ بِصِلة إلى دماثته، وتستمدّ كلّ قسوتها ممّا يحيط بها من قتل بالمعنى الحقيقي للكلمة.
تستمدّ الرموز قوّتها من عنف خصائصها، وقليلاً جدّاً ما تستمدّها من الدوافع والأسباب الشخصيّة تماماً، التي تسنّى لها أن تولِّدها أو أن تحملها.
فاقة عوّاد الجذريّة هذه، وقد فُهِمت أخيراً بتعابير روحيّة، لا تفسّر الحالة التي يمثّلها في شيء. حتّى مع كون كلّ شيء فيه من الواضح البسيط.
هكذا، وصل إلى بيروت على متن طائرة في رحلة بسعر مخفّض، مع لوحاته الملفوفة صُرَّةً، وحطّ في المطار الساعة الواحدة صباحاً. وإذ كان لا مال لديه، وهو على أيّ حال لم يجد سيارة أجرة، حمل صرّة لوحاته وقطع المسافة حتّى منزل شقيقه سيراً على قدميه. لم يجرؤ على أن يقرع الباب وانتظر على سلّم المدخل طلوع الفجر متأمّلاً كلّ تباشيره حتّى السادسة صباحاً قبل أن يقرع الباب.
يحكّ عوّاد من اللوحة ظرافتها الممكنة مثلما يُكشَط الجلد الميت المسلوخ. ويضيف إليها التلذّذ بعذاب الخيبة. هذه النزعة الشرقيّة المحض إلى الاعتقاد بأنّ الانبعاث حاصل لا محالة ما دام قد تأمّن كلّ ما يلزم.
ما إن توفّي، حتّى خانه من كان يعتبرهم أعزّ أصدقائه، المرأة التي كان يساكنها، وصديق آخر مقرَّب. أفرغ هذا الأخير المرسم بعد الوفاة ووجد وسيلة لإعادة استعمال اللوحات والرسم عليها، ليكون ذلك بمثابة قتل مرّة ثانية. وبرّر الصديق فعلته بأنّه لم يشأ أن يترك للاجيال التالية لوحات شُرِع بها ولم تكتمل. أكثر من ذلك، المدهش في الأمر كون خليلة عوّاد، التي كانت قد انتقلت للعيش مع تاجر عاديّات وعوّاد لا يزال في المشفى يواجه الموت مصاباً بالسرطان، وجدت وسيلة لإعطاء كافة الرسوم لمحتال رأى أنّ أفضل طريقة للاستفادة منها هي أن يضع عليها توقيعه ويختمها على أنّها تعود إلى مجموعته.
من المؤكّد أن نسيجاً من الحسد ومن مؤامرة حماقات قد أحاط بعوّاد الذي صار، لدى الحُسّاد، موضوعَهم المتعلِّق باستحالة أن يكون المرء رسّاماً، وذاتَهم المُسقَطة على هذه الاستحالة.
عوّاد ضحيًة بقدر ما يصحّ اعتبار المرء ضحيّة غياب اتّساع المدى الخاصّ بمشروعه في الرسم. حتّى لو كان هذا المشروع يقوم على الاحتكاك بالواقع أوّلاً، وعلى الخوض في لعبة جعل بناء الرسمة ممكناً.
كان ذلك حَرْفيّاً موقعَه المناقض لمانِتّي، أستاذه في «الأكاديميّة اللبنانية». هذا الجانب المشوَّش حيث كان درس سيزان Cézanne يلتحق بالتزام بالمدرسة الإيطاليّة في الرسم مؤدّى على نحوٍ بالغٍ من التشكّي والمشاكسة بحيث يمسي خارج الصدد.
لعب عوّاد على التناقض المزدوج بين اللقطة التخطيطيّة الخاطفة croquis المكتملة البناء والواقع المؤدّى وبات مرغماً على مجاراتهما كليهما.
هناك شيء ما في تطوّره بالذات توقّف هنا، إذ راح يحكّ اللوحة لينزع عنها كلّ لون، وقد تملّكته قناعة بأنّ هذه الطبقات المتتالية يمكن أن تُظهِر المؤدّى الحسّاس في الاحساس، التنقيب عن آثاره. وفي هذه الحالة لا وجود لعِلم التنقيب عن آثار الاحساس.
كان عبّود يجرجر حساسيّة ثقافيّة لم يتمكّن من إيجاد مكان لها في الفنّ إلى أن فهم أنّه كان عليه الذهاب إلى هذا النوع من التحرّف على النفس حيث كان لبنان يعتمد الجبلة كما النقش أو الطين المشوي.
أمّا عوّاد فكان يجرجر حساسيّة شديدة التوتّر حيث جاذبيّة طبعه الجذريّة لم تَعُد كافية لحمل رسم أغلق بفقره كلّ الابواب والنوافذ. معزول ولا يملك فلساً، مدفوع إلى عزلة العزلة وإلى أن يصبح الحارس اليقظ لجحيم نفسه.
كان عليه أن يعيش ذلك لسنوات عدّة، الأمر الذي كان له الاسهام الأكبر في إضعاف زخم قوله وتقليص مداه، دون تمكينه من أن يحظى بهذا الجانب الاجتماعي الذي كانت أولويّته في التعبير تتّصل بالتعابير التي تخص البقاء.
لعلّ في هذا تكمن بطولة عيشه في البؤس، لكن دون بلوغ هذا النوع من انكسار قواه في مواجهة رهان عدائي حتّى لو أنّه كان يعاود تَحمُّل كلّ ثقل هذا المكبوت دون أن يتأتّى للرقابة أن تسهّل التوصّل إليه.
أو إنّ عبّود وعوّاد، عَبْر إمعانهما في انغلاق أعمق، بالنسبة إلى هذا الجيل من فنّاني عهد الاستقلال اللبناني، قد اختارا باريس كبلد للفنّ ولحياة ممكنة تحلّ باريس فيها محلّ بيروت.
كان الوهم الرئيس في ذلك ناشئاً عن المُعاش قبل أن يكون ناشئاً عن فنّ الرسم نفسه. كانت المسافة المتّخذة مع لبنان مسافة منفى البُعد عن الفنّ المتمثّل بباريس.
كانت فترة الخمسينيّات فترة اكتساب علاقة عبّود ـ عوّاد طابعاً اجتماعيّاً وفترة النزاع بينهما. وقد ارتبط النزاع برغبتهما في الاقامة في باريس، مع مدخل إلى صالة عرض، وإلى حلقة من الهواة وأصحاب المجموعات. توصّل عوّاد سنة 1954 إلى العرض عند غوتهلف، الذي أخذه تحت حمايته إلى حدّ ما، في حين أنّ عبّود لم يؤخذ تحت حماية غندرتايل Gindertaël إلّا في أواخر الخمسينيّات.
عوّاد يرسم بيدَي وأعصاب وعينَي كلٍّ من مانِتّي وسِير. تخطيطه للّقْطة الخاطفة يبسّط الأشكال هندسيّاً ويكسر تقاليد الرسم التمهيدي التقليدي والتقاط الموضوع الرئيس، وذلك لصالح فكرة جديدة تماماً عن الأناقة باعتبارها سلعة مستوردة إيطاليّة ـ فرنسيّة.
هنا تحديداً تكمن نقطة الضعف، إنّها الأناقة.
كانت باريس لعبّود كما لعوّاد مكاناّ لإسقاط نفسي باعتبار كلّ شيء فيه ممكناً وقابلاً أن يُعاش، لكنّ كان لهذا التعبير الاقتصادي منحى مختلف. هي مكان لإسقاط المتخيَّل وتحقيقه بالرسم كما كانا يدركانهما – لكنّ هذا الاقتصاد كان يختلف في إدراك أحدهما عنه في إدراك الآخَر – كانا على طرفي تناقض أعمق من أن يجد حلّاً.
رسم ثقيل، على أسوأ ما يكون، اصطناع أسلوب بَرّاق baroque بتكرار مؤثِّراته الخاصّة، أي باستنساخ اصطلاحاته ذات المفردات المجرَّدة بحيث تلائم عودةً إلى المرويّ الذي تزيد من سذاجته رغبتُه المكتومة في العودة إلى الينابيع.
في اللقطة التخطيطيّة الخاطفة le croquis لدى عوّاد: يد سِير Cyr وطموح إلى أناقة باريسيّة.
أمّا عبّود، فهو الجميّل وألوان تستعيد حيويّتها بتثبيتها على اللوحة، بحركة اليد التي تثبّتها، أي تحديداً هذه البلاغة التي تؤول إلى أن تكون أدبيّة حصراً. كلّ تقاليد نزعة تلوينيّة وانطباعيّة في الفنّ اللبناني.
مع عوّاد، تظهر العوائق بوضوح: جزّين، المنظر الفريد، ساحة الشهداء، شارع غورو، الفولكلور، الفقر الذي يُرى كشكل آخر للمنظر الفريد في نظر الذين لم يعرفوه. فريتز غوتهلف ومن بعده تأثير سيّدات المجتمع، لور صدناوي وصالة العرض لاليكورن la Licorne، ريموند كازناڤ ثم صالة لاماتور L’Amateur.
في الأدراج أوراق عوّاد، ساعة منبِّه، قصاصات صحف، «ﭘﺎري ـ ماتش»، «فرانس سوار». من الجليّ أنّه كان قد تأمّل الصور الفوتوغرافيّة باهتمام، وطرح على نفسه أسئلة حول توازن أعماله بالأسود والأبيض التي سيواصل التفكير الجذري فيها آخر حياته.
إنّها، عند عوّاد، حكايات قتل، واغتيال، وفقر. ولم تكن أعماله في مجملها سوى سعي بالرسم لاستبعاد نظرته التي تنمّ عن جزع ورعب.
مع ذلك ينبغي الاعتراف دونما تردُّد بما يتحلّى به من كِبَرٍ وشاعريّة في صدقيّته العنيدة والأساسيّة. قليلين جدّاً كانوا من فهموا شيئاً من أعماله الأخيرة.
أعمال سوداء عن قطارات المترو، نسخ سلبيّة لصُوَر (نيغاتيف) عن الواقع، المترو في هبوط إلى الجحيم.
إنسان سقط صريعاً بيده. الوزن الذي يوحي بأنّ كلّ شيء يتهاوى دفعة واحدة، ما يجعل كلّ شيء يتهاوى فعلاً.
كان يعود إلى هذا التيه نفسه الذي لا يمكن أن يجيزه سوى القَدَر وحده متزاوجاً مع الفقر والرسم، لكنّه تيه لا يستطيع النجاح إذا كانت الحساسيّة التصويريّة تتجاوز التحسّس الزائف، في المؤدّى أو في العبارة دونها في الإطار البنيوي للرسم نفسه.
وبكلمة أوضح، لا فائدة من أن يمضي المرء عمره يخطّ اللقطات الخاطفة في انتظار بلوغ الرسم الزيتي الذي لا يملك من أجله لا الوسائل المادّيّة ولا الفضاء الداخلي.
انساقت شخصيّته بملء وعيها إلى الانحباس في سجن واقعي أكثر منه خيالي.
وبات غارقاً في هذا اليأس حيث الواقع لا يرسل إليك أيّة إشارة إلى حدّ ذوبان التصوير نفسه في سهولة المؤدّى. عندما يتحوّل المؤدّى بدوره إلى طريقة مكرَّرة، يصبح الطريق المسدود مقطوعاً تماماً إذ يصير كُلّ ما يفعله الرسم استنساخاً لنفسه. اجتراراً غريباً للتفاهة وللعادي البصري.
كذلك ينبغي إدراك أنّ الأمر ليس من باب التجريح المؤذي، إنّما يجب التجرّؤ لمرّة على وضع فنّ الرسم اللبناني خارج الإطار العادي الوحيد حيث النعت الوحيد يفرغ كافّة ما في جعبته من أعذار للرداءة والضعف.
كِلا الاستراتيجيّتين الفنّيّة والاجتماعيّة المتعارضتين لدى كلٍّ مِن عبّود وعوّاد تنمّان عن موقفين من العلاقة مع باريس في تاريخ الفنّانين اللبنانيّين.
انتظمت حياة عوّاد تماماً على إيقاع الترحّل ذهاباً ـ إياباً على خطّ باريس ـ بيروت كتأرجح رقّاص السعادة الوحيدة الصعبة: الرسم. كانت الرحلة الأوّلى بيروت ـ باريس عبارة عن اتّصال بأصدقاء «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة»، الكائنة يومها في مبنى مستأجر من دير «راهبات المحبّة» في اللعازريّة. كان يقيم عند والديه اللذين كانا يديران تزلاً عائليّاً في شارع غورو، وكان يكفيه إذاً أن يجتاز ساحة الشهداء.
ليس عُصاب عبّود عصاباً شاعريّاً، يعود إلى المكان المستحيل (للفنّ) الذي ينبغي التوصّل إليه، بل هو عصاب إخفاقات الهويّة، عُصاب الصراع بين عالَمين وبين ثقافتين حيث القسم الأكثر حميميّة من الغذاء الداخلي ومن المجابهة يتشكَّل من التفارقات ومن الانحرافات في المصطلَح وفي الانساق.
يبقى عبّود في المقام الأوّل أدبيّ التكوين. إنّه يخصّ الكلمات بالتعبير ويترك لفنّ الرسم الاهتمام بتلوين الارضيّة التي يقوم عليها أدبه. أنّه يرسم في الدرجة الثانية التعليق على الرسم دون أن يتوصّل أبداً إلىى شيء يخصّه شخصيّاً فيما يتعدّى هذه التعليقات المضمومة في مجموعات.
اللغة، يخصّ بها اللسان. وربّما نشأ عُصاب عوّاد عن اتّصال البراءة بالفقر. قد يكون هذان المصطلحان غير ملائمين لتعيين مكان عُصاب لو لم يكن من الوارد أن يُفهم بالفقر، نصيبُه كعصامي في الفنّ وفي الحياة. كانت براءته بالفعل خشبة خلاصه من الفقر ومكّنته من خوض الصراع ضدّ إفقار النفس.
يضاف إلى هذه البراءة فقدان الروح النقدي الذي يجعله يأخذ في الحسبان تاريخ الفنّ والتعليم الفنّي في لبنان كـمُعاصَرة بلا تَطلُّعات ولا أحكام. وبذا يستقي من اللغات التي تحيط به دون أن يحقِّق المختلِف العميق والتفاوت الجذري.
إنّه يكتشف باريس ويرسم قطارات الأنفاق والمقاهي والبارات كالسائح الطيّب. لكن ربّما ظَلَّ الـمُنتظَرُ منه أن يكتشف فنّ الرسم. إنّه يكتشفه لحاقاً. كان كلّ هذا قد رُسِم سابقاً. لوترِك Lautrec ودوغا Degas ما كانا لينقذاه من كونه سائحاً.
كان ينقذه أحياناً لون هلوسات الجوع. لكن هنا تكون الاطلالة لمونْش Munch. كان يتهيّأ له أنّه قد استنفد هذه المواضيع المرئيّة بلا هوادة، والعين تتعب من المرئيّ بلا هوادة.
تبقى الفضيحة الحقيقيّة في تصفية شخصيّته ومرسمه بعد رحيله.

فريد عواد، باريس، 1966

فريد عواد، باريس، 1966

فريد عواد، الثالث من اليمين، بيروت، 1955

فريد عواد، باريس، 1966