top of page

أشقر، إﻳﭭﻴﺖ

سان ﭘﺎولو، 1928

بعد الاستقرار مع أسرتها في لبنان سنة 1938، انتسبت إﻳﭭﻴﺖ أشقر إلى «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة» (ALBA) من 1947 إلى 1952. وأقامت معارضها الأولى في بيروت، في آذار/ مارس 1960 في غاليري «لا ليكورن» (La Licorne)، وفي نيسان/ أبريل 1961 في غاليري «أليكّو صعب»، ومن 23 آذار/ مارس حتّى 4 نيسان/ أبريل 1964 في غاليري «وان» (One).

السؤال الرئيس الذي تطرحه إﻳﭭﻴﺖ أشقر – فيما يتخطّى مستوى المحاججة – هو سؤال أخلاقيّة الشكل، وتبرير الفنّ التجريدي، وضرورة الرسم، كتعبير عن الحياة وتبريرها. فهي تحمل في مجرى الرسم اللبناني اختلافاً في الجَرْس وفي الطريقة لا صلة له في شيء بالأنوثة – استسهالاً في التفسير. فبدلاً من الحبك  الأنثوي الذي طال انتظاره، يصدر الرسم لديها عن تطلّب داخليّ.

وجدت إﻳﭭﻴﺖ أشقر في تنشئتها العائليّة، وهي التي وُلدت في سان ﭘﺎولو لأسرة ميسورة من المغتربين اللبنانيّين، ليس ميلاً إلى العزف على اﻟﭙﻴﺎنو، شأن الكثيرات من الفتيات البرجوازيّات، بل نواة من الحساسيّة أخذت بالتطوّر لديها منذ الطفولة. ليست هذه الحساسيّة أنثويّة بالمعنى المصطلح عليه للكلمة؛ إنّها قوّة وعمل دؤوب وإحساس، أكثر من كونها تقديراً لهذا الاحساس أو استمتاعاً به. ستولي أشقر انتباهاً للشكل بقدر كونه يعبّر عن هذا العمل، معوِّلة على البنية التي تكتنفه وتعبّر عنه. هل هذا عائد إلى كون رسمها يحمل وَسْمة تأثير فرنسي، كأثر محلّي لـ«مدرسة باريس»؟ لدى النظر عن كثب، يتبدّى أنّ الأمر ليس لعبة مؤثّرات بقدر كونه تمثّلاً لنمط عيش. إذ لم تكن آليّاته أبداً آليّات هويّة أو الاضطلاع بقضيّة.

انتسبت أشقر إلى «الأكاديميّة» في وقت كان جورج سِير، رغم أنّه لم يعلِّم فيها أبداً، يمثّل فنّ الرسم الفرنسي، مع مسحة تضفيها الحياة الاجتماعيّة، في الاوساط الفرنكوفونيّة اللبنانيّة. تابعت دروس قيصر الجميّل ومانِتّي (Manetti)، وهو رسّام إيطالي شغوف بالرسم ومحبّ للحياة كان قد استقرّ في لبنان. يدخل الطابع الغنائي لأعمالها في إطار تكعيبيّة الخمسينيّات في القرن العشرين، على أبعد ما في إمكاننا المضيّ في ترسيم حدود التفارق، لكنّها تشحن هذا الطابع بحساسيّة من شأنها تدمير كلّ التشدّد في البناء الهندسي لمصلحة التقاط الاحساس.

كانت أشقر في «الأكاديميّة» على تعارض مع الجميّل، ورفضت الإطارَ الاجتماعي لفنّ الرسم في تلك الفترة وحياةَ وسطه المجتمعي. كانت تأبى مجرّد النجاح في بناء اللوحة أو الرسمة، إذ كانت تتطلّع مباشرة إلى ما يبني الشكل. وبتأثير من مانِتّي، المتمرّس في حداثة سيزان كما في فنّ الرسم الايطالي العائد إلى ما قبل عصر النهضة، عملت بدأب على التحرّر من القراءة الأكاديميّة الابتدائيّة، في مجال تنقية الشكل وكتمان صخب الألوان. قامت حداثتها في المقام الأوّل على مجرّد مباشرتها فعل الرسم خارج إطار فنّ الرسم اللبناني في بداية الخمسينيّات.

واصلت إﻳﭭﻴﺖ أشقر العمل على استكشاف الفضاء الذي بدأه التكعيبيّون، بعمل منظّم على مستوى مختلف الأدوات التشكيليّة، وذلك حتّى مع كون المواضيع، في المنطلق، تصويريّة. بواخر في المرفأ، مناظر طبيعيّة، طبيعة ميّتة: لم يكن الجوهري في عملها يرتكز على مؤدّى الادراك الحسّي والتصوير، بل على تنقيتهما التدريجيّة، على النحو الذي يسمح بتنظيم الادراك الحسّي للشكل على اللوحة. وأخذ فنّها، ابتداءً من الستّينيّات، يتمثّل التجريد الأوروﭘﻲ ويبني تدريجيّاً، على أساس من حدسها الأصلي، لوحات تُطوِّر فيها مساءلتها للشكل وعملها على الألوان.

في نهاية العقد، أصبح هذا الخليط المنصهر شفّافاً وتَكثَّفَ كنواة تخترقها خموش، لينتهي إلى أن ينبجّ تحت دفع من وسائله التشكيليّة الخاصّة. راحت الفنّانة تعيد تدريجيّاً، بالإضافة والتنقية – بعيداً عن كلّ حذلقة – تتالي المفردات الأوّليّة، في بحث عمّا يمكن أن يكون التجريد، غير منظور إليه من خارجه بقدر كونه منبثقاً من مساءلة داخليّة للتكثّف في حقل طاقة اللوحة.

هكذا ستغادر التصويرَ مسطّحاتٌ مستقطعة وجبّارة، أو بالأحرى هو التصوير سيغادرها. فهي تنداح في الرسم بكامل ملموسيّتها – عجينةً وسماكةً – كي تعود، في حركة مزدوجة من التكثّف ثمّ التوسّع، فتستعيد، وقد عولجت على حِدَةٍ في فضاء مرتعش، طاقةَ البدايات، وبمثابة التطهّر الروحي، إثباتَ فضاءٍ مقطَّع لكنّه تحت السيطرة، الامكانيّة الوحيدة لدى الرسّام للتكلّم بمفرداته واستعادة زخم المنطلَق. لا جدال في أنّ الفنّ يعيش بمزاياه التصويريّة لا بالمزايا، الروحيّة والجَوّانيّة، العائدة للفنّان، لكنّ اشتغال الرسم، هنا، يكون اشتغالاً داخلياً.

أمضت إﻳﭭﻴﺖ أشقر أكثر من عشرين سنة في التعليم في «الأكاديميّة» وفي «معهد الفنون الجميلة» التابع للجامعة اللبنانيّة. كانت تحمل حساسيّتها ووعيها لدور الشكل في الفنّ إلى طلّاب مرصودين من شكلانيّة التجريد، منظوراً إليه كموضة دارجة لا كإلتزام احترافيّ وكأخلاقيّة تقشّف وتزهّد. ويجب الاعتراف على أيّ حال بأنّ حضورها قليلاً ما لوحظ على هذا النحو لدى الجمهور الواسع. إلّا أنّها استبقت، في فنّ الرسم اللبناني، فكرة إمكانيّة الأخلاق مصانةً، وقطعت الطريق على المعضلة القديمة – التي تزداد إقلاقاً مع فوات وقتها – المتعلّقة باعتباطيّة الفنّ التجريدي إطلاقاً، باعتباره مجرّد عبث، إمّا بلا نفع، وإمّا، ببساطة، غير قابل للفهم.

أرادت إﻳﭭﻴﺖ أشقر أن تجد وسيلة تتيح التدخّل في اللوحة «واقعيّاً» ومباشرة، في حين أنّ البعض، من جيلها، مثل سعيد عقل أو منير نجم، كانوا يَمضون بحثاً عن ينبوع ثقافي عربي. يمكن أن نقرأ في أعمالها تأثير الستّينيّات: ماثيو (Mathieu)، وهارتونغ (Hartung)، واليابان والزِن zen والبحث الروحي الذي يخصّ هذه الهندسة للاشياء والذي لا يتكشّف بالهندسة وحدها، إنّما بالنظام الخفيّ للعالَم.

إيڤيت أشقر، 1988

bottom of page